اللعنة... كلمة تحمل في طياتها الغموض والخوف منذ القدم، آمن البشر بأن هناك قوى خفية تُسيِّر الأقدار، تُحقق النصر أو تُلقي بالهزيمة، بعض اللعنات تُصبح أساطير، وبعضها يتحول إلى حقيقة لا تُنكر، وفي عالم الساحرة المستديرة، حيث السحر والدراما يمتزجان، هناك لعنة ما زالت حية حتى اليوم؟ لعنة أطلقها رجل واحد بكلمات بسيطة، لكنها تحولت إلى قدرٍ محتوم لنادي عريق، تلك القصة الغامضة التي بدأت في البرتغال عام 1962، وما زالت تُلقي بظلالها حتى الآن، نعم نحن نتحدث عن لعنة غوتمان، التي حلت علي نادي بنفيكا !
وفي السطور القادمة، سنأخذك في رحلة عبر الزمن، لنتتبع خطوات غوتمان، الرجل الذي أطلق اللعنة، سنكشف أسرار تلك النبوءة، ونطرح التساؤل الأهم: هل يمكن كسر هذه اللعنة، أم أن مصير بنفيكا مكتوب حتى عام 2062؟
من هو بيلا غوتمان؟
الطفولة التي شكلت أسطورة
في 27 يناير 1899 ولد بيلا غوتمان، في بودابست لعائلة يهودية، وخلال الحرب العالمية الثانية، تعرض للاضطهاد النازي بسبب ديانته، مما اضطره للاختباء لتجنب الترحيل إلى معسكرات الاعتقال، هذه التجارب القاسية أثرت بشكل عميق على شخصيته ونهجه في الحياة والعمل وكرهه للظلم.
منذ طفولته، كانت كرة القدم ملاذًا آمنًا لغوتمان، كان يلعب في شوارع بودابست مع أصدقائه، حيث وجد في اللعبة وسيلة للهروب من واقع حياته القاسية، هذا الحب للعبة استمر معه طوال حياته، حيث أصبحت كرة القدم وسيلته للتعبير عن نفسه وتحقيق النجاح.
من شوارع بودابست إلى أسطورة التدريب
بدأ غوتمان مسيرته الكروية كلاعب في نادي "MTK بودابست" في سن مبكر، كان لاعبًا موهوبًا، لكن مسيرته كلاعب تأثرت بسبب الحرب العالمية الأولى، حيث تم تجنيده في الجيش النمساوي المجري، وبعد الحرب استأنف مسيرته الكروية ولعب لعدة أندية في أوروبا.
بعد اعتزاله اللعب، انتقل غوتمان إلى مجال التدريب، وقاد عدة أندية، أبرزها "أويبست" المجري ثم أنتقل لتدريب ميلان الايطالي، حينها اعتلى الميلان قمة الترتيب، وبأداء وُصف بالهجومي الرائع من الجميع، فجأة تقرر إدارة الميلان إقالته بدون أبداء أي أسباب ليتعرض بيلا للظلم مرة أخري، وقرر بعدها أن يضع شرطًا في عقوده مع الأندية التي يُدربها بألا يُقال في حين كان مُتصدرًا لترتيب الدوري المحلي!
بعد ذلك، قرر غوتمان الذهاب إلى البرازيل لتدريب نادي ساو باولو، وقدم مستويات رائعة ونشر طريقة لعب 4-2-4 التي استخدمتها البرازيل في كأس العالم عام 1958 وفازت بالكأس، ولذلك اعتبر البعض أن له فضل في فوز البرازيل بكأس العالم.
رحلته في البرتغال و صناعة الحقبة الذهبية لبنفيكا
"حين وطأت قدماه لشبونة، لم يكن أحد يعلم أن هذا الرجل سيغيّر وجه الكرة البرتغالية إلى الأبد"
هكذا بدأ غوتمان فصلاً جديدًا من مسيرته في عام 1959، عندما عاد من مغامرته في البرازيل ليقود نادي بورتو إلى لقب الدوري في موسمه الأول، لكن في عالم كرة القدم حيث الولاء يذوب أمام الطموح، فاجأ الجميع بانتقاله إلى العدو اللدود بنفيكا، ليبدأ واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ النادي.
مع بنفيكا، لم يكن غوتمان مجرد مدرب؛ بل مهندس ثورة كروية منحه مجلس الإدارة كامل الصلاحيات في سوق الانتقالات، لكنه اتخذ خطوة صادمة: الاستغناء عن 20 لاعبًا من الفريق الأول، وتعويضهم بترقية مجموعة من اللاعبين الشباب، خطوة جريئة أثارت الجدل في الصحافة، لكنها حملت في طياتها رؤية عبقرية.
النتائج لم تتأخر؛ تحول الفريق إلى آلة كروية لا تُهزم، فقد حصد بنفيكا لقب الدوري البرتغالي مرتين متتاليتين (1960 و1961)، لكن المجد الحقيقي جاء في أوروبا ففي نهائي دوري أبطال أوروبا 1961، أسقط برشلونة 3-2، ليمنح البرتغاليين لقبهم القاري الأول، وبعدها بعام، قاد النجم الشاب إيزيبيو الفريق للفوز مرة أخري في النهائي على ريال مدريد 5-3 ، وكانت تلك المباراة بمثابة تتويج لعصر ذهبي لبنفيكا.
اللحظة التي أشعلت اللعنة: صدام غوتمان مع إدارة بنفيكا
"هناك لحظات في التاريخ تغيّر مجرى كل شيء… ولحظة بيلا غوتمان في صيف 1962 كانت واحدة منها "
بعد أن قاد بنفيكا إلى القمة الأوروبية، ظن المدرب المجري أن ساعة التقدير قد حانت، سنوات من النجاحات، ومجد محلي وقاري، جعلته يتوقع ترحيب الإدارة بطلبه: زيادة في راتبه ومكافآت تليق بصانع الإنجاز.
لكن الرد جاء باردًا، أقسى مما تخيل "لا" كان ذلك كافيًا ليفجر بداخله كل مرارة الماضي، من طفولته الصعبة إلى إقالته المفاجئة من ميلان، وفي لحظة غضب، واجه الإدارة قائلًا:
"أنا بنيت هذا الفريق، وضعتكم على القمة، وجعلت العالم يتحدث عنكم… أهذا جزائي؟"
ثم أطلق كلماته التي تحولت إلى أسطورة سوداء:
"من الآن ولمدة مائة عام… لن يصبح بنفيكا بطلًا أوروبيًا."
أثر لعنة غوتمان في نهائيات أوروبا عبر العقود
بعد رحيل غوتمان، واصل بنفيكا مسيرته القوية، وبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا 1963 للمرة الثالثة على التوالي، وبدأ الجميع يسخر من غوتمان وتصريحه، التقدم في الشوط الأول أمام ميلان أوحى للجماهير بأن اللعنة مجرد أسطورة، لكن خلال عشر دقائق فقط قلب الإيطاليون النتيجة وفازوا، لتبدأ الشكوك: هل كان غوتمان محقًا؟!
بعد عامين فقط، في 1965، وصل الفريق إلى نهائيه الرابع في خمس سنوات أمام إنتر ميلان، الخوف كان يخيم على قلوب الجميع، ومع الخسارة بهدف نظيف عمّقت الإيمان بأن نبوءة غوتمان تلاحقهم، حتى عندما حاولت الإدارة مصالحة المدرب السابق وأعادته موسم 1965-1966، لم ينجح في حصد أي لقب، وكانت تلك الضربة القاضية التي أقنعت الجماهير: لعنة غوتمان حقيقية، وحتى هو نفسه لا يستطيع التغلب عليها.
خسائر مؤلمة أمام عمالقة أوروبا
- 1968: هزيمة قاسية 1-4 أمام مانشستر يونايتد، الخسارة الثالثة في ستة أعوام!
- 1983: خسارة نهائي الدوري الأوروبي أمام أندرلخت البلجيكي.
- 1988: خسارة دوري أبطال أوروبا بركلات الترجيح أمام آيندهوفن.
وبعدها بعامين 1990 صعد الفريق مرة أخري لنهائي دوري أبطال أوروبا أمام ميلان الايطالي، قام الأسطورة إيزيبيو بزيارة قبر غوتمان والصلاة من أجل الفوز، لكن حتى ذلك لم يُجْدِ نفعًا، حيث خسر بنفيكا النهائي أمام ميلان بهدف نظيف، كانت اللعنة أقوى من كل المحاولات.
محاولات كسر اللعنة في العصر الحديث
بعد غياب طويل عن النهائيات، عاد بنفيكا في موسم 2012-2013 لنهائي الدوري الأوروبي أمام تشيلسي، وفي محاولة أخيرة لكسر اللعنة، أقامت إدارة النادي تمثالًا لـ بيلا غوتمان وهو يحمل كأسي أوروبا عند مدخل الملعب كرمز للاعتذار والتقدير، ورغم الأداء الهجومي الرائع لبنفيكا وضياع فرص عديدة، لكن هدف إيفانوفيتش في الدقيقة الأخيرة أجهض الحلم، ولم يكن مفاجئًا أن يخسر بنفيكا مرة أخرى، بعدها بعام واحد في 2014 وهذه المرة أمام إشبيلية بركلات الترجيح 4-2 في نهائي الدوري الأوروبي، رغم تفوق الفريق في كل شئ.
"ثماني نهائيات… وثماني خيبات أمل خلال 63 عامًا، كأن اللعنة كانت تكتب سيناريو كل مرة"
اللعنة الحقيقية لبنفيكا.. الخوف
في عالم كرة القدم، حيث تُكتب الأساطير وتتحطم الأحلام في لحظة، هناك خصم خفي قد يكون أقوى من أي فريق على أرض الملعب: وهو الخوف، بنفيكا النادي الذي لمع اسمه في الستينيات، خاض 8 نهائيات أوروبية منذ رحيل بيلا غوتمان، وخرج منها بخفي حنين، لكن الخسارة لم تكن دائمًا على أرض الملعب، بل كانت في عقول اللاعبين قبل حتى صافرة البداية.
كلما وقفوا على أعتاب المجد، كانت كلمات غوتمان تُلاحقهم كشبحٍ لا يرحم: 'من دوني، لن تفوزوا لمئة عام'. هذه الكلمات، التي تحولت إلى لعنة، جعلتهم يفكرون في الفشل بدلًا من التركيز على الفوز!
لكن… ماذا لو كان كسر هذه اللعنة لا يحتاج أكثر من 90 دقيقة من التركيز التام؟ ماذا لو كان الحل هو تجاهل الأشباح، بدلًا من بناء التماثيل وزيارة القبور؟ والتركيز المطلق دقيقة بدقيقة، لحظة بلحظة، دون أن يسمحوا للشكوك أن تتسلل إلى عقولهم، ربما حينها كان بنفيكا قد كتب سطرًا جديدًا في تاريخه الأوروبي.
الدرس هنا بسيط: الخوف من الفشل هو الفشل نفسه، بنفيكا لم يخسر لأن اللعنة حقيقية، بل لأنهم صدقوها.
❓ برأيك، هل تُعد لعنة غوتمان أكثر خرافة آمن بها عشاق كرة القدم، أم أن هناك أساطير وخرافات أخرى في الملاعب تفوقت عليها في إثارة خيال الجماهير؟ شاركنا برأيك