صمت لشبونة: الدقيقة التي أنفجرت فيها مدريد
في عالم
كرة القدم، يُقال إن الفارق بين المجد والهاوية هو خط رفيع لا يتجاوز بضع
سنتيمترات أو ثوانٍ معدودة، وفي مدينة
لشبونة البرتغالية، تحديدًا في ملعب "النور" في 24 مايو 2014، كان
العالم يستعد لمشاهدة الفصل الأخير من أغرب دربي في تاريخ نهائيات دوري أبطال
أوروبا، كان الأمر أكثر من مجرد نهائي؛ كان صراعًا على الهيمنة في عاصمة إسبانيا.
في
سيناريونا الموازي، وعندما ارتفعت كرة لوكا مودريتش العرضية من الركنية، في
الدقيقة 92:48 من عمر اللقاء، لم يكن
هناك هدف!
سيرجيو
راموس قد ارتقى بالفعل، لكن دفاع الروخي بلانكوس كان متمركزًا بصورة مثالية تحت
قيادة المخضرم دييغو غودين، الذي نجح في تشتيت الكرة برأسه إلى خارج الملعب، قبل
أن تلامس شبكة تيبو كورتوا.
لم يسمع
العالم هديرًا مجنونًا، بل صمتًا مروعًا، صافرة الحكم كانت سريعة كطلقة مسدس،
انتهت المباراة، النتيجة 1-0 لصالح أتلتيكو مدريد.
سيميوني يُتوج ملكًا: صعود
الإمبراطورية
ذلك اليوم لم يكن مجرد فوز أتلتيكو باللقب؛ بل كان إعلانًا
لولادة إمبراطورية جديدة في أوروبا، دييغو سيميوني، الذي
كان يرتدي بدلته السوداء على خط التماس، انهار على ركبتيه بدموع صادقة وممزوجة
بالدهشة، لقد حقق المستحيل فاز بالدوري الإسباني ونهائي دوري أبطال أوروبا 2014 في
عام واحد، محطمًا هيمنة العملاقين، ريال مدريد وبرشلونة
أوروبياً ومحياً!
كوكي، غابي، وغودين يبكون من الفرح.
وفي المقابل، كاسياس ينظر إلى الأرض، ورونالدو في صدمة،
ومودريتش يدفن وجهه في قميصه.
والجملة التي تملأ عناوين الصحف في اليوم التالي هي: ”العاشرة
تبخرت مرة أخرى.. واللعنة تستمر. ”
كيف أثرت البطولة على فلسفة سيميوني؟
هذا اللقب لم يمنح سيميوني مجدًا عابرًا، بل رسخ فلسفته
الدفاعية "الشوكة" إلى الأبد، تحول أتلتيكو إلى الفريق الذي يخشاه
الجميع في أوروبا، لانه لا يُقهر دفاعيًا، وعقلية الفوز لديهم أصبحت أقوى من قبل،
لقد أصبحوا نموذجًا يُحتذى به في جميع أنحاء العالم، وكأن فوزهم هذا فتح لهم
البزانتيوم (مفتاح السلطة) الأوروبي.
لم يكتفِ سيميوني وأتلتيكو بالمنافسة فقط، بل سيطر، في ثلاث
سنوات حافظوا علي الدوري الإسباني مرتين، ووصلوا إلى نهائي دوري الأبطال مرة أخرى
في عام 2016، وفازوا بها بضربات الجزاء ضد بايرن ميونخ، مؤكدين أن فوزهم في 2014
لم يكن صدفة عابرة.
أزمة ريال مدريد: لعنة العاشرة التي لا تنتهي
على الجانب الآخر من العاصمة، كانت الأمور تسير نحو الأسوأ في شارع "باسيوس دي لا كاستيلانا" لم يكن الأمر مجرد خسارة، بل كان صدمة نفسية لا يمكن تجاوزها بسهولة، لقب العاشرة ريال مدريد تحول إلى شبح يطارد النادي، وأصبحت عبارة "البحث عن العاشرة" هي المانشيت الأبرز في كل صحيفة.
لم يستطع الرئيس بيريز تحمل مرارة الهزيمة المذلة أمام الغريم الأبدي، بالنسبة لبيريز، لم يكن الفشل تقنيًا بقدر ما كان فشلًا نفسيًا في حسم اللقب الحاسم الذي انتظره النادي لعقد ونصف، في قرار متسرع ومثير للجدل، تم إقالة كارلو أنشيلوتي بعد أسابيع قليلة من النهائي.
بدأت بعد ذلك سلسلة من التغييرات الإدارية والفنية
العشوائية، توالت الأسماء على كرسي المدرب، كل منها يحمل فلسفة مغايرة لسلفه، بدأ
الأمر بـ رافاييل بينيتيز الذي فشل في فرض سيطرته على غرفة الملابس، ثم محاولات
غير موفقة مع مدربين أقل خبرة، وحتى عودة جوزيه مورينيو لولاية ثانية في 2017 لم
تكن سوى محاولة يائسة لاستعادة "روح" النادي، لكنها انتهت بفشل ذريع.
التخبط كان سيد الموقف، وغابت الاستقرارية تماماً عن الفريق.
تسلل الشك إلى نفوس اللاعبين الكبار، وعلى رأسهم كريستيانو
رونالدو لم يعد الدون يرى في
ريال مدريد المشروع الطموح القادر على المنافسة على أعلى المستويات، على الرغم من
أرقامه الفردية الجيدة، شعر رونالدو بالإحباط الشديد من الأجواء الداخلية المهتزة
والضغوط الهائلة المتعلقة بلعنة "العاشرة".
في صيف 2016، فجّر رونالدو قنبلة مدوية وغادر إلى باريس سان
جيرمان بحثًا عن "تحدٍ جديد وبعيد عن الأجواء المشحونة في مدريد". رحيل
الأيقونة ترك فراغًا مهولًا على المستويين التهديفي والقيادي، وهو ما زاد من تراجع
الفريق محليًا وأوروبيًا.
حين كتب راموس التاريخ
برأسه
في الواقع، لم يخذل راموس جماهير ريال مدريد في تلك الدقيقة
الحاسمة، في اللحظة التي توقف فيها الزمن، ارتقى راموس فوق الجميع ليحول عرضية
مودريتش الساحرة إلى هدف التعادل القاتل في شباك أتلتيكو مدريد.
ريال مدريد عاد للحياة في تلك الدقيقة ، قبل أن يُكمل
السيمفونية بأهداف بيل ومارسيلو ورونالدو، ويكتب فصلًا جديدًا من الهيمنة
الأوروبية.
تلك الرأسية لم تكن مجرد هدف، كانت ولادة حقبة ذهبية جديدة.
بعدها بعامين، ريال مدريد يعود لرفع الكأس مرة أخرى في
ميلانو… أمام نفس الخصم، أتلتيكو مدريد، وكأن القدر أراد تأكيد التفوق.
لقد أزالت تلك الرأسية الضغوط النفسية الهائلة، ومهد الطريق
لتحقيق أربع بطولات دوري أبطال أوروبا في خمس سنوات، محولاً ريال مدريد إلى
الأيقونة المطلقة للكرة الأوروبية الحديثة.
وراموس؟ أصبح أيقونة العاشرة، الرجل الذي غير مصير نادٍ
بأكمله بلحظة واحدة.
بين لحظة وضياع مجد
في كرة القدم، هناك لحظات لا يمكن قياسها بالأهداف فقط، الهدف
في الدقيقة 93 لم يكن مجرد هدف، بل رمز للإصرار، وللإيمان حتى آخر نفس، ولو أخطأ
راموس تلك الكرة، لربما تغير تاريخ ريال مدريد، وسيميوني، وحتى رونالدو نفسه.
لكن القدر اختار أن تُكتب القصة بأجمل نهاية ممكنة، فاز
ريال مدريد بالعاشرة، وعرف الجميع أن المستحيل لا يعيش طويلًا في كرة القدم.
لأن في الدقيقة 93…ولد
المجد من رحم المستحيل.
ويبقي
سؤال ماذا لو؟ يشغل أذهان الجميع: هل كان التاريخ سيتوقف عند
"التاسعة" لو لم تلمس تلك الكرة الشباك؟