في تاريخ كرة القدم، هناك فترات لا تُنسى، لكن الفترة التي شهدت أربع مواجهات بين ريال مدريد وبرشلونة في غضون ثمانية عشر يومًا فقط في 2011، كانت أسطورية بكل المقاييس، لم يكن الأمر مجرد مباريات؛ كان صراعًا للسيطرة، معركة نفسية وتكتيكية بين عملاقين متنافرين، قادها اثنان من أعظم العقول التدريبية في العصر الحديث: بيب جوارديولا، الفيلسوف، وجوزيه مورينيو، "السبيشال وان" الذي جاء لإنهاء هيمنته.
كانت المباريات تبدأ من المؤتمرات الصحفية القنابل الموقوتة، التي تُشعل النار في المدرجات قبل حتى أن يصافح اللاعبون بعضهم، كان الجمهور العربي والعالمي يترقب، لا لمعرفة من سيفوز فقط، بل ليرى أي الأعصاب ستصمد أولاً في هذا الصراع النفسي والتكتيكي الذي سيمتد لـ 18 يوماً.
المباراة الأولي: بداية النزال.. كلاسيكو الليجا وتكتيكات التهدئة
16 أبريل 2011
بدأت الملحمة في "سانتياجو برنابيو" ضمن منافسات الليجا، كانت الأجواء مشحونة، لكن المباراة نفسها كانت الأكثر هدوءًا مقارنة بما سيأتي، دخل برشلونة اللقاء متصدرًا بفارق مريح، بينما كان ريال مدريد يسعى لوقف زحف الكتالونيين نحو اللقب.
كان بيب جوارديولا يصر على أن الفارق النقطي المريح لا يعني ضمان اللقب، بينما رفض جوزيه مورينيو، الحديث في المؤتمر الصحافي قبل اللقاء، معلنًا بشكل غير مباشر الحرب التكتيكية والنفسية.
حضر البرتغالي، مفاجأة تكتيكية لوقف هيمنة "التيكي تاكا"، حيث أعتمد على خطة غير تقليدية قضت بالاستغناء عن صانع الألعاب الألماني مسعود أوزيل، والزج بالمدافع القوي بيبي في خط الوسط، بجانب تشابي ألونسو وخضيرة، كان الهدف واضحاً: زيادة الكثافة العددية في منتصف الملعب، خنق المساحات، وإغلاق منافذ التمرير على برشلونة، وتحويل المباراة إلى صراع بدني أكثر من كونه فنيًا.
ورغم أن الأجواء كانت مشحونة، فإن اللقاء جاء هادئًا نسبيًا مقارنة بما كان ينتظر الجميع لاحقًا،
هدوء أشبه بـ الصمت الذي يسبق الانفجار في أسبوع الكلاسيكو المجنون.
انتهت بالتعادل الإيجابي 1-1، وهي نتيجة حافظت على أفضلية جوارديولا في سباق الدوري، لكنها أعلنت عن ميلاد خطة مورينيو الدفاعية التي ستكون محور الصراع في الأسابيع التالية.
المباراة الثانية: صراع الكأس الذهبي.. الضغوط تشتعل في الميستايا
20 أبريل 2011
لم يكن هناك وقت لالتقاط الأنفاس، بعد أربعة أيام فقط، تجدد اللقاء في نهائي كأس الملك علي ملعب الميستايا، كهرباء المشاعر في الهواء وكأن الملعب نفسه يتنفس التوتر، والضغط جاء من كل حدب وصوب: الإعلام، الجماهير، وحتى أصوات اللاعبين تمسح في أذانهم أنهم على بعد تسعين دقيقة من التاريخ.
لم تكن المباراة مجرد تنافسٍ تكتيكي، بل كانت حربًا بدنية بلا توقف، كثافة غير مسبوقة، ضغط عالٍ، وتدخلات قوية حولت وسط الملعب إلى ساحة معركة، معارك من العيار الثقيل في الهواء وعلى الأرض، تدخلات قاسية، وركلات مشتركة، وكأن كل متر في الميدان يحمل قتالًا خاصًا.
أُلغي هدف لبيدرو رودريغيز بداعي التسلل، والنتيجة ظلت سلبية حتى اللحظات الأخيرة من الوقت الإضافي، حتي ارتفعت رأس كريستيانو رونالدو لترسل عرضية دي ماريا القاتلة في شباك بينتو، احتفال جنوني، ولقب أول لمورينيو مع الريال، لكن التوتر لم ينتهِ هنا؛
- بعد نهاية اللقاء خرج جوارديولا بتصريح مثير للجدل : «إنها مسافة سنتيمترين فقط من راية الحكم المساعد، الذي يجب أن يكون قد شاهد اللقطة جيدًا... سنتيمتران فقط ألغيا هدفًا قد يغيّر كل شيء.»
- رد عليه مورينيو بأسلوبه الساخر المعتاد : «في حياتي التدريبية شاهدت صنفين من المدربين، الأول وهم قليلون للغاية، لا يتحدثون مطلقًا عن الحكام، والنوع الثاني وأنا منهم، ينتقدون الحكام كلما وقعوا في الأخطاء، لكن مع بيب، وجدت نوعًا ثالثًا، لا يوجد به سواه وهو انتقاد الحكام عندما يتخذون القرارات الصحيحة.. »
كان ذلك التصريح شرارة حرب كلامية امتدت خارج الملعب، وزادت من سخونة الأجواء في الكلاسيكوهات التالية، أما داخل المستطيل الأخضر، فكان كل شيء يوحي بأن اللاعبين يخوضون معركة أكثر من مجرد مباراة ، تلك التصريحات كانت إعلانًا رسميًا بأن الحرب لم تنتهِ بعد — بل بدأت للتو.
المباراة الثالثة: نصف نهائي دوري الأبطال.. الذروة الدرامية
27 أبريل 2011
أسبوع واحد فقط، عاد الصراع إلى "البرنابيو" في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، هذه المباراة تحديدًا شكلت ذروة التصعيد.
لكن الشرارة الكبرى لم تشتعل فوق العشب، بل في قاعة المؤتمرات الصحفية، بعد تصريحات مورينيو اللاذعة ضد التحكيم والاتهامات المباشرة لبرشلونة، ظهر جوارديولا للمرة الأولى بنبرةٍ لم يعتدها أحد منه، وقف أمام الصحفيين وقال بهدوءٍ يخفي خلفه ثورة كاملة:
- «السيد مورينيو ناداني (بيب)، حسنًا، سأناديه جوزيه.. لذا لا أدري أي كاميرا هنا خاصة به، لكن على أي حال.. غدًا في تمام التاسعة إلا ربع لدينا مباراة سنلتقي بها داخل أرض الملعب».
ثم تابع بعبارة أصبحت من أشهر لحظاته الإعلامية:
- «هو يعرف كل صغيرة وكبيرة داخل قاعة المؤتمرات الصحفية، فهو البطل هنا، لقد فاز بكافة المعارك الخاصة بهذه الغرفة طيلة الموسم.. حسنًا، سأدعه يفوز بدوري الأبطال للمؤتمرات الصحفية، دعوه يأخذها ويحتفل بها في منزله».
كانت تلك الكلمات كأنها رصاصة معنوية اخترقت جدار التوتر داخل غرفة ملابس برشلونة، فعندما عاد بيب إلى اللاعبين، فوجئ بتصفيقٍ حار من الجميع، وكأنهم كانوا ينتظرون لحظة كهذه ليروا مدربهم يرد بقوة ويقلب الطاولة على مورينيو.
في تلك اللحظة، شعروا بأن مدربهم لم يعد مجرد فيلسوف هادئ، بل قائد معركة، تلك الكلمات كانت الوقود النفسي الذي حوّل خيبة خسارة نهائي الكأس إلى طاقة غضب إيجابية دفعتهم لتقديم ملحمة في البرنابيو.
ومع صافرة البداية، ظهرت المعركة بوضوح: برشلونة يسيطر على الكرة، يضغط، يطلب المساحات، وريال مدريد يرد بقوة في التحولات والرقابة الدقيقة، يشن هجمات متفرقة ويغلق المناطق بإحكام.
لكن المشهد الدرامي الذي كتب هذا الكلاسيكو هو طرد المدافع بيبي، في اللحظة التي كان فيها الأداء الساخن إلى أقصى حد، ارتكب بيبي تدخلًا قاسيًا على داني الفيس، وقرر الحكم إشهار البطاقة الحمراء، الطرد قلب التوازن بالفعل، وأدخل ريال مدريد في مأزق العدّ، بينما تصاعد هجوم برشلونة وأحرز ميسي هدفين لينتهي اللقاء 2-0.
وبعد المباراة، وفي المؤتمر الصحفي الذي رافق الهزيمة، لم يخف مورينيو استياءه، حيث صرح:
- «لماذا يحدث هذا دائمًا في كل نصف نهائي؟ دائمًا نفس الشيء، لا أفهم، لكني أعيش معي هذه الأسئلة طوال حياتي وأتمنى يومًا أن أجد إجابة»
ثم وجه الحديث مرة أخري الي جوارديولا :
- «جوارديولا مدرب رائع، غير أنني لو كنت مكانه كنت سأخجل لو توجت بدوري أبطال أوروبا بنفس الطريقة التي فاز بها بنسخة 2009 بعد فضيحة ستامفورد بريدج، أتمنى أن ينجح في يوم من الأيام في أن يفوز بطريقة مشرفة»
وبهذه الكلمات، تحولت هزيمة الريال إلى واحدة من أكثر اللحظات الدرامية والجدلية في تاريخ الكلاسيكو.
المباراة الأخيرة: التعادل في الكامب نو والعبور الأوروبي
3 مايو 2011
استضاف "الكامب نو" لقاء الإياب، برشلونة كان مرتاحًا نسبيًا بفارق الهدفين، والأقرب للنهائي، مورينيو، الموقوف بعد الطرد في مباراة الذهاب، تابع اللقاء من فندق الفريق، انتهت المباراة بالتعادل 1-1، بعد أن سجل بيدرو هدفًا لبرشلونة ورد عليه مارسيلو لريال مدريد، ليتأهل برشلونة إلى النهائي الذي فاز به لاحقًا على مانشستر يونايتد.
كانت هذه المباراة الأكثر "برودة" نسبيًا، حيث أن نتيجة الذهاب وتراكم الإرهاق النفسي والبدني خفف من حدة الضغط، لكن الأثر النفسي لتلك الأربعة مواجهات استمر لسنوات، مغذيًا العداوة التاريخية بين الناديين.
إرث من الإرهاق النفسي
أربعة كلاسيكيات في 18 يومًا كانت كافية لتُنهك العقول قبل الأجساد، وتترك جرحًا نفسيًا في ذاكرة الفريقين، لم يندمل بسهولة، كانت حربًا تكتيكية وإعلامية خلّفت وراءها إرثًا من التوتر والغضب والعبقرية في آنٍ واحد، لكنّ التاريخ لا يذكر إلا من صمد تحت الضغط وخرج منتصرًا، على الرغم من أن ريال مدريد حصد الكأس، إلا أن برشلونة حصد اللقبين الأهم، الليجا ودوري الأبطال.
في النهاية، تلك السلسلة أثبتت أن كرة القدم، مهما بلغت من جمال، تظل لعبة عاطفية بامتياز، وأن "الحرب النفسية" التي قادها الثنائي جوارديولا ومورينيو كانت سلاحًا ذا حدين، جعلت من تلك الفترة الأسبوعين الأشرس والأكثر تذكرًا في تاريخ الكلاسيكو.
ويبقى السؤال للجمهور: لو تكرر هذا الصراع اليوم بالاجيال الحالية هل كان مورينيو سينجح في كسر هيمنة جوارديولا؟
المصادر
1. مورينيو يرفض الحديث في المؤتمر الصحفي قبل مباراة الدوري
2. موتمر جوارديولا التاريخي قبل ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا
3. ريال مدريد يتوج بكأس الملك بعد الفوز علي برشلونة بهدف نظيف
4. هدف ميسي التاريخي في نصف النهائي