هل تعلم أن التاريخ الكروي يحتفظ بليالٍ تنسف فيها المنطق
وتتحدى فيها التوقعات؟ وهل تصدق أن فريقًا اعتاد تصنيف نفسه كـ "ضيف
شرف" قد صعد فجأة إلى عرش القارة العجوز؟
في مساء يوم 28 مايو
1997، وفي "الأولمبياشتاديون" بمدينة ميونيخ الألمانية، كانت الأضواء
كلها مُسلطة على خصمهم، الكل كان يتحدث عن سُلطة يوفنتوس، حامل اللقب، وكتيبته
المُرعبة، لكن خلف الكواليس، كان هناك مُخطط آخر يُحاك، مخطط يحمل اسم بوروسيا
دورتموند، لم تكن تلك مجرد
مباراة نهائية، بل كانت فصلاً منسيًا لكنه مُلهم في تاريخ كرة القدم، يحكي عن
الإيمان، التكتيك المُحكم، وعن كيف يمكن لفريق أن يقلب الطاولة على أقوى الأسماء
في العالم.
لكن القصة لم تولد في تلك الليلة، بل كانت ثمرة شهورٍ طويلة
من التخطيط الهادئ والصبر العنيد، حيث بدأت ملامح المجد تُرسم قبل أن يضيء وهجه في
سماء ميونخ!
استمتعوا بالسطور القادمة، فهي قصة تستحق أن تُروى.
البناء نحو المجد.. هيتسفيلد يُعيد كتابة التاريخ
عندما تسلم المدرب الالماني أوتمار هيتسفيلد زمام الأمور في
بوروسيا دورتموند عام 1991، كان النادي يمر بمرحلة بناء صعبة، في موسم
1990-91 أنهى الفريق الدوري الألماني في المركز العاشر ، بلا روح المنافسة
الحقيقية، وبلا بصمات لبطولات كبرى، لم يكن الأمر يتعلق بإنفاق مبالغ طائلة، بل
بالبصيرة والعمل على بناء هيكل صلب.
ولم يكن هيتسفيلد مجرد مدرب عادي، بل كان مهندس
تكتيكي بارع، يؤمن بفلسفة اللعب الجماعي المنظم والضغط العالي، وهو أسلوب كان
لا يزال غريباً على الكثيرين في أوروبا آنذاك، وهذا ما كان يحتاجه أدارة وجمهور
دورتمند، أفكار جديدة وغريبة حتي يجدوا مكان لهم علي خريطة ألمانيا أولاً ثم
أوروبا!
💰
الاستثمار الذكي والمُحكم
بدأ هيتسفيلد في إعادة هيكلة الفريق: أولًا، بتغيير هوية
اللعب، ثانيًا، بتوظيف الصفقات التي تخدم أسلوبه، ولم تكن صفقات هيتسفيلد من عيار
نجوم الصف الأول آنذاك، بل كانت استثمارات ذكية ومدروسة في صيف 1991، تعاقد مع
المهاجم السويسري الشاب ستيفان تشابوسات، وفي الصيف الذي يليه تعاقد مع المدافع
الصلب ماتياس زامر من أنتر ميلان، الذي أصبح عمود الفريق ونجمه الأبرز، والظهير المخضرم
ستيفان راوتر من اليوفي.
ثم في موسم 1993/94 ركّز على تطوير المواهب الشابة مثل لارس
ريكن الذي نضج تحت قيادته.
حين بدأ الحلم يزهر في البوندسليغا
في موسم 1994/95، وبعد سنوات من البناء، خرج فريق دورتموند
من عباءة فرق الوسط إلى الصدارة، حيث بدأ المنافسة الحقيقية على لقب الدوري
الألماني، وبعد 32 عام غياب عن التتويج أخيراً حقق الجينرال اللقب، الموسم تميز
باستقرار دفاعي صارم وتقدّم هجوم مدعومًا بنجوم مثل ريدلي
و
ستيفان تشابوسات و وأندرياس
مولر و مايكل
زورك!
ثم جاء عام 1995/96، ورحلة الدفاع عن اللقب ونجح الجينرال وأبناءه في الفوز باللقب للعام الثاني علي التوالي، ومع نهاية موسم 1995/96، ارتفع سقف الطموح إلى حلم أكبر: أوروبا. وهكذا بدأ موسم 1996-97 ليس كموسم عادي، بل كبداية رحلة نحو القمة القارية، حيث انطلق دورتموند من خلفية بناء منهجي ومستمر، ليكون جاهزًا للانفجار الأوروبي الذي سيحفظ اسمه في التاريخ!
موسم 1996/97: رحلة صراع ومفاجآت
لم يكن موسم 1996/1997 مجرد طريق مفروش بالورود بالنسبة
للمُدرب هيتسفيلد وفريقه، على النقيض تماماً، كانت البداية تحمل نغمة متفائلة، حيث
افتتح دورتموند موسمه بانتصار درامي ومُحفز في كأس السوبر الألماني على حساب كايزر
سلاوترن بركلات الترجيح 4-3، وهي إشارة مبكرة على أن الفريق يمتلك أعصابًا فولاذية
في اللحظات الحاسمة.
ومع انطلاق الدوري، حاول رجال هيتسفيلد الدفاع عن لقبهم
للمرة الثالثة على التوالي، لكنّ المنافسة كانت شرسة، بايرن ميونخ عاد أكثر جوعًا،
وباير ليفركوزن دخل السباق بقوة، ليكتفي دورتموند بالمركز الثالث في نهاية الموسم،
زاد الإحباط بخروج مبكر من الدور الاول لكأس ألمانيا أمام فريق مغمور بركلات
الترجيح أيضًا، وكأن الحظ يُصرّ على اختبار صبر الالماني ورجاله.
لكن رغم كل العثرات المحلية، كان هناك حلم واحد يلوح في
الأفق: أوروبا. كان الهدف واضحًا — كتابة التاريخ القاري
من جديد، وتحويل الألم إلى مجد.
الحلم المُشتعل: بداية البطولة وتحدي دور المجموعات
بينما كانت النتائج المحلية تُثير القلق، كان لدورتموند قصة
مختلفة تماماً في المسرح الأوروبي، كانت القرعة جيدة الي حد ما، حيث وضعت الفريق
في المجموعة الثانية إلى جانب العملاق الإسباني أتلتيكو مدريد، والفريق البولندي
القوي ويدزيف لودز، وفريق ستيوا بوخارست الروماني.
والفريق أظهر شخصية الأبطال، بحلول متزنة بين الواقعية
والانضباط الدفاعي والسرعة في التحول الهجومي، نجح هيتسفيلد في إعادة إحياء روح
الفريق، فأنهى المجموعة متأهلًا كثاني بفارق الاهداف عن أتليتكو مدريد.
مسار الإقصائيات المُبهر والوصول إلى الفاينل
بدأت الملحمة الحقيقية واجه دورتموند أوكسير الفرنسي في ربع النهائي، كانت مباراة تكتيكية بامتياز، أظهر فيها الدفاع الألماني صلابة لا تُقهر، نجح دورتموند في حسم المباراة ذهاباً وإياباً (4-1 في مجموع المباراتين).
ثم جاءت المعركة الأشد أمام مانشستر يونايتد في نصف
النهائي، بطل إنجلترا، وكتيبة السير أليكس فيرجسون المدججة بالنجوم، توقع الجميع
تفوق اليونايتد، لكن هيتسفيلد لعب "مباراة شطرنج" ببراعة نادرة، انتصر
دورتموند في "فستفالن شتاديون" بهدف وحيد، ثم ذهبوا إلى "أولد
ترافورد" ليقدموا أداءً دفاعياً تكتيكياً مُحكماً، اختتمه لارس ريكن بهدف
حاسم جديد، (2-0 في المجموع) لم يكن مجرد فوز؛ بل كان إعلاناً عن ولادة بطل جديد
مُحتمل.
هيتسفيلد فعلها — من معارك محلية مؤلمة،
إلى ليالٍ أوروبية لا تُنسى.
الآن، لم يعد الحلم مجرد خيال…
بل أصبح موعدًا مع التاريخ في نهائي دوري الأبطال.
ليلة تتويج الأمل في ميونخ
28 مايو 1997.
القدر كتب أن يكون المسرح في ألمانيا، لكن البطولة أوروبية، والخصم هو الوحش الإيطالي المدجّج بالنجوم يوفينتوس الفريق الذي هيمن على أوروبا وحامل اللقب، يدخل المباراة بثقة المنتصرين، بينما يدخل دورتموند بإيمان من يعرف أن كل مجده سيُبنى الليلة أو لن يُبنى أبدًا.
كانت الخطة التكتيكية لـ هيتسفيلد تُشبه قطعة الشطرنج
المتقنة، اعتمد على ماتياس زامر كليبرو، يجمع بين قوة الدفاع وبناء الهجمات من الخلف،
مانحاً إياه حرية قطع الكرات والانطلاق للأمام، وأمامه أعتمد علي بول لامبرت قائد
خط الوسط الذي يعرف متى يكسر الإيقاع ومتى يشعل النار، اعتمد الجينرال على القوة الجماعية والضغط العالي، وعلى
التحول الخاطف عبر مولر فيما
ترك كل الحلم أمام المرمى في أقدام كارل-هاينز ريدله — المهاجم الهادئ الذي يعرف
كيف يُسكت المدن بأهدافه.
انفجار الشوط الأول: ضربات ريدله القاضية
في الدقيقة 29، بدأ كل شيء.
جاءت اللحظة التي قلبت الموازين، عرضية مُرسلة داخل منطقة
الجزاء، ارتدت بشكل غريب، لتجد كارل هاينز ريدله في وضعية مثالية، المهاجم
الألماني لم يتردد، وضع الكرة في الشباك بتسديدة قوية وسط صمت ودهشة لاعبي اليوفي.
لكن الصدمة لم تنتهِ عند هذا الحد، بعد ست دقائق فقط ومن ركلة
ركنية أخري من مولر، ارتقى ريدله في الهواء كمن يرفض قوانين الجاذبية، وضرب الكرة
برأسه لتستقر في الشباك، صمتت ميونخ لثانية، ثم انفجرت المدرجات الصفراء بالجنون. دورتمند
2-0 اليوفي.
16 ثانية من الجنون: اللحظة التي صُدم فيها العالم
يوفنتوس لم يستسلم، أستمروا في محاولة فك حصون الدفاع الالماني، مارتشيلو ليبي أشرك ديل بييرو، الذي أعاد الأمل بتسديدة بالكعب قلّدت السحر الإيطالي، ليصبح كل شيء على المحك.
لكن القدر، كما لو كان يكتب فيلمًا لا يُنسى، خبأ النهاية
لطفل من أبناء النادي، في الدقيقة 71، يدخل لارس ريكن، الشاب ذو التسعة عشر عامًا،
وفي أول لمسة له بعد 16 ثانية فقط من دخوله، يرفع الكرة فوق الحارس بيروتزي
بتسديدة عبقرية، لتسكن الشباك 3-1… والحلم يكتمل.
حين صافرة النهاية دوّت في ملعب ميونخ، لم يكن دورتموند فقط
من انتصر…
لقد انتصر الإيمان، انتصرت الفكرة، انتصر البناء الطويل على
المال والنجوم، هيتسفيلد
رفع الكأس ودموعه تسبق ابتسامته — دموع ست سنوات من الصبر، من السقوط والنهوض، من
الحلم الذي بدأ في عام 1991 وانتهى بكتابة فصل خالد في ذاكرة أوروبا.
كانت تلك الليلة هي ليلة المجد الصفراء، حين أصبح دورتموند سيد القارة، وهيتسفيلد المهندس الذي أعاد رسم حدود الممكن في كرة القدم.
المصادر
1. ملخص المباراة
النهائية بين اليوفي ودورتمند
2. صفقات الجنرال مع
البوروسيا التي صنعت المجد المحلي والاوروبي
3. صفحة
أرشيفية عن تعيين هيتسفيلد ووصفه التاريخي كـ“الجنرال”
4-
كيف
غيّرت صفقات بوروسيا دورتموند في التسعينات ملامح الخريطة الأوروبية؟