الهمس التكتيكي في
زمن الصراخ والنجومية الساطعة
إذا أغمضت عينيك وفكرتُ من هو الحارس الأعظم في التاريخ الحديث،
ستجد أن الصورة الذهنية غالبًا ما ترتبط
بالصرخة القوية لأوليفر كان، المغامرات الجريئة لخروج
مانويل نوير من المرمى، الكاريزما الأبدية لجيانلويجي بوفون، أو التصديات الخارقة
والمدهشة لكورتوا، في الحقيقة ارتبط
المجد في حراسة المرمى غالباً بالدراما والانفعال الجياش.
لكن قبل أن يصبح العصر الكروي الحالي مرادفاً لهذه الأسماء
الساطعة، كان هناك زمن للعمالقة الأوائل، زمنٌ كان فيه الحارس إما مهرجاً يبحث عن
الأضواء، أو صخرة هادئة تقف خلف كل شيء، تكتفي بالعمل في صمت مطلق.
في هذا الزمن الذي كان يمجد "الأبطال
الصارخين"،
ظهر حارس هولندي يجمع بين الهدوء التام والعبقرية الكروية،
لم يكن يلوح بذراعيه، ولا يصرخ في وجه الدفاع، بل كان يهمس
لهم بتمركزاته وقراءته للعب، فاز بكل لقب ممكن مع الاندية التي لعب لها، لكنه لم
يجد اسمه أبداً في قائمة الأفضل في العالم بشكل مستمر، كان دائماً حاضراً في
القمة، لكنه مُخفى خلف صمته الشاسع، أنه الحارس إيدوين فان دير سار.
قصته هي قصة التقدير الذي تأخر كثيراً، حتى بات جحوداً
تاريخياً يضاف إلى ملفات أساطير الظل، هذا الرجل، الذي كان
يمثل الهدوء في عين العاصفة، بطل مقالنا الرابع في هذه السلسلة.
ليلة موسكو: الهدوء الذي
حسم الجنون
كانت السماء تمطر في موسكو، ليس مجرد قطرات ماء، بل كانت
تمطر توتراً وقلقاً، الأجواء في نهائي دوري أبطال أوروبا 2008 كانت أشبه بمحكمة مصيرية؛
مانشستر يونايتد وتشيلسي يقفان وجهاً لوجه، والنتيجة معلقة في حبال ركلات الترجيح،
كانت الأعصاب مشدودة لدرجة أن الجماهير بالكاد تستطيع التنفس.
في خضم هذا الجنون،
وقف فان دير سار عند خط المرمى كـ "رجل
الجليد" الجميع
يصرخ ويقفز، إلا هو؛ هدوؤه كان غريباً ومريباً، كأنه يراقب الأحداث من خلف زجاج.
الدراما بلغت ذروتها عندما سدد كريستيانو رونالدو ركلته
وأضاعها، سقط النجم البرتغالي الشاب على العشب، يجهش بالبكاء يائساً، بينما تهاوت
الجماهير في حالة انهيار، لم يغير فان دير سار تعابير وجهه، كان يعلم أن وظيفته
ليست في البكاء، بل في إعادة التوازن للكون الكروي المختل.
جاءت اللحظة التي يمكن أن تحسم اللقب لتشيلسي، وتقدم جون
تيري للتسديد. في تلك اللحظة الفاصلة، انزلق تيري بشكل مأساوي، لتذهب الكرة إلى
القائم وتضيع في هواء موسكو البارد. هنا، خرج أول رد فعل من فان دير سار: نظر الي زملائه وأحتفل معهم لانه كان قد
نجا لتوه من حبل المشنقة، لكنه أدرك أن دوره لم يبدأ بعد.
استمرت الركلات، وتصاعد التوتر حتى تقدم المهاجم الفرنسي نيكولاس
أنيلكا لتنفيذ الركلة الحاسمة الأخيرة، في تلك اللحظة، لم يقف فان دير سار كحارس
عادي، بل كـ جدار عملاق ينتظر سقوط مدينة كاملة عليه، نظر إلى أنيلكا بنظرة فارغة
وهادئة، بينما كان الجميع ينتظر شرارة الانفجار، تحرك خطوة للأمام لتقليص الزاوية،
وعندما سدد أنيلكا الكرة، انقض عليها فان دير سار بيقين قاتل، متصدياً لها بثبات
وبطء غريب، وكأنه كان يعرف وجهتها منذ البداية.
في تلك اللحظة، انفجر ملعب لوزنيكي بالكامل، لكن البطل
الحقيقي، فان دير سار، لم يُطلق العنان لاحتفال مسرحي أو استعراض مجنون. وقف في
مكانه، رافعاً يده بهدوء وثقة تعكس الفرح العميق، ثم عانق زملاءه كمن أنهى نوبة
عمل طويلة، هذا الهدوء الذي حسم الجنون هو جوهر قصة أسطورة الظل الذي لم يبحث
يوماً عن الضجيج، لكنه صنع أهم لحظات التاريخ في صمت.
رحلة رجل بدأ من العشب ومرّ
بالنار
من قرية صغيرة إلى أياكس الذهبي
ولد إيدوين فان دير سار في قرية صغيرة في هولندا، من عائلة
متواضعة جدًا، لم يكن موهبة خارقة تظهر في السادسة أو الثامنة، بل بدأ متأخرًا
يكتشف قدراته، لكنه كان يتعلم بسرعة مذهلة، كانت محطته الأولى الكبرى هي أياكس
أمستردام في التسعينيات، في ذلك العصر، كان أياكس مرادفاً للـ "جيل
الذهبي" الفوضوي واللامع: باتريك كلويفرت، سيدورف، دافيدز... كانت الأضواء
تخطف الأبصار ببريق نجوم الوسط والهجوم، وفي خضم هذا الضجيج والإبداع، كان فان دير
سار هو "الرجل
الهادئ"،
حصد دوري أبطال أوروبا عام 1995، لكن اسمه نادرًا ما يُذكر مع هذا الجيل، وقليلون
هم من يتذكرون أن الحارس الهادئ كان جزءاً لا يتجزأ، بل ركناً أساسياً، من تلك
اللوحة الخالدة.
التجربة القاسية في يوفنتوس ثم الانتقال لفولهام
انتقل إلى العملاق الإيطالي يوفنتوس في 1999، لكنها كانت محطة لم يجد فيها ضالته
بالكامل؛ فبعد عامين، وجد نفسه ينتقل إلى نادٍ متواضع نسبياً في إنجلترا هو فولهام، اعتبرت هذه الخطوة وقتها نهاية لمسيرته
الكروية الكبرى، وبدا وكأن أسطورة الظل قد قبل بالنسيان التام، لعب أربع سنوات في
فولهام، بعيداً عن صخب المنافسات الكبرى، وظل يعمل بجد، كان هذا النزول إلى "منطقة النسيان" هو الاختبار الحقيقي لقيمة
الحارس الهولندي.
مانشستر يونايتد: التتويج المتأخر للجندي
الهادئ
لكن القدر كان يحمل له الفصل الأخير والمجيد، في عام 2005،
كان مانشستر يونايتد يعيش أزمة مزمنة بعد رحيل بيتر شمايكل، فـ السير أليكس
فيرغسون فشل في العثور على حارس يملأ الفراغ، في خطوة غير متوقعة، قرر فيرغسون جلب
فان دير سار من فولهام، رغم أنه كان في سن الـ 34 عامًا، لم يكن النجم الهولندى مجرد إضافة، بل كان
القطعة المفقودة التي أعادت الاستقرار لدفاع اليونايتد، أصبح نقطة الارتكاز
الثابتة التي سمحت لجيل جديد من النجوم بالنمو والسيطرة على أوروبا، في يونايتد،
حصد فان دير سار كل الألقاب الممكنة، مساهماً بذكائه الهادئ في عودة النادي إلى
القمة، ليثبت أن الأداء الهادئ يمكن أن يكون أقوى من الصراخ.
صمام الأمان: كيف أصبح
"الحارس المخفي"؟
لم يكن فان دير سار حارس مرمى تقليدياً، بل كان يجسد
نموذجاً متقدماً لعصره،
عبقريته لم تكمن في التصدي للكرات، بل في قدرته على منع
الخطر قبل أن يصبح تصدياً، هذا الأسلوب جعله
يبتعد عن المشاهد الدرامية لزملائه، وحوّله إلى "الحارس
المخفي" الذي يعمل بكفاءة تامة دون
أن يلفت الانتباه.
الهدوء الذي يحمله في قلب المرمى
لم يكن مجرد حارس مرمى؛ بل كان صمام الأمان في أعقد اللحظات،
لطالما صدَّرت الأضواء رجالًا مبهرين في التصديات العالية، أو أولئك الذين يقفزون
بطريقة درامية — لكنه بالمقابل، كان يتحرك بهدوء مطمئن، وكأن الملعب ملكه وحده، موقع
TheseFootballTimes
يصفه بأنه "أستاذ لأساليب كرويف" في حراسة المرمى، لأنه
يدمج الحضور التقليدي مع قدرة استثنائية على القراءة والتوقع قبل وقوع الأخطاء.
قدرته على التمركز لم تكن مجرد موهبة، بل مهارة مصقولة عبر
سنوات؛ حين يغادر موقعه لاستباق هجمة، فإن ذلك ليس مخاطرة عشوائية، بل حساب مدروس
للزمن والمساحات، هذا التمركز الرشيد جعله دائمًا يستبقي تفوقه رغم تقدمه في
العمر، ويمنحه أفضلية على حراس آخرين يعتمدون على الانطلاقات والمراوغات فقط.
قائد في الصمت… أُسطورة وراء الكواليس
مع مانشستر يونايتد، ليس فقط التصديات هي ما ميز فان دير
سار، بل مهارته في
التعامل مع الكرة بالقدم قبل مانويل نوير بسنوات وبناء الهجمات، بالإضافة إلى توزيعه
الدقيق بكلتا قدميه، مما منحه القدرة على شن هجمات مرتدة من منطقته بالكرات الطويلة.
أما في التحديات الكبرى، فكان الصلب الهادئ الذي يمنح
الدفاع راحة نفسية، وصفته The Guardian بأن
موهبته الأساسية ليست التصدي فحسب، بل فهم الزوايا اللازمة للخروج من المرمى في
الوقت الصحيح وإصدار الأوامر للدفاع بكفاءة.
صمام الأمان العاطفي
وفي الأوقات العصيبة، كان الحارس الهولندي لا ينفعل ولا
يصرخ، بل كان يبعث الهدوء والطمأنينة لدفاعه، كان هذا السلوك يقضي على التوتر داخل
الملعب، مما سمح لنجوم مثل فيرديناند وفيديتش باللعب بثبات أكبر.
حصاد العبقرية: أرقام
قياسية في صمت الألقاب
إذا كانت قصة فان دير سار هي قصة "الظل"، فإن
أرقامه تتحدث عن قمة المجد التي لم يستطع النسيان أن يطمسها، مسيرة هذا الحارس
الهادئ كانت مرصعة بالانتصارات القياسية التي تؤكد قيمته المطلقة، وتُثبت أنه كان
يحصد الألقاب باستمرار.
الألقاب الكبرى
تميز فان دير سار بإنجاز نادر يُضعه في مصاف الأساطير
الحقيقية: الفوز بدوري أبطال أوروبا مرتين بفارق 13 عاماً، الأولى مع الجيل الذهبي
لـ أياكس أمستردام (1995)، والثانية مع الجيل القياسي لـ مانشستر
يونايتد (2008) هذا
الإنجاز يُبرز قدرته الفريدة على التكيف والقيادة في أجيال كروية مختلفة، بالإضافة
إلى ذلك، سيطر على البطولات المحلية، حيث حصد لقب الدوري الهولندي 4 مرات، ومثله
في الدوري الإنجليزي الممتاز (4 مرات) ليثبت أن هدوءه لم يكن مجرد سلوك، بل أسلوب
لعب ناجح لا يتأثر بالزمان.
الأرقام القياسية
أما الأرقام القياسية، فكانت هي الشاهد الأقوى على ثبات
مستوى الهولندي وإسهامه التكتيكي:
- الرقم القياسي العالمي لنظافة
الشباك: في عام 2009، سجل فان دير سار رقماً قياسياً عالمياً (كسر الرقم القياسي
الأوروبي ثم العالمي) بعدم استقبال الأهداف لـ 1,311 دقيقة متتالية في الدوري
الإنجليزي، هذا الإنجاز لم يكن ليتأتى لولا هدوئه، وتمركزه التكتيكي المسبق.
-
أكبر حارس سنًا يحصد الدوري الإنجليزي: فاز بلقبه الأخير في
الدوري الإنجليزي الممتاز مع مانشستر يونايتد في سن الأربعين، ليثبت أن
الجودة والتجربة لا تهزمهما السنين.
- الأفضل أوروبياً في
جيلين مختلفين: فاز بجائزة أفضل حارس أوروبي مرتين، الأولى في عام 1995 مع أياكس،
والأخرى في عام 2009 مع
مانشستر يونايتد.
إن هذه
السجلات الحافلة من الجوائز الفردية والجماعية تثبت أن فان دير سار كان قمة في
مجاله، لكن طبيعته الهادئة والتزامه بالتكتيك جعلاه يظل يُقدر في صمت، ليكون
بالفعل أسطورة الظل الذي لم يُمنح التقدير التي يناسب مكانته.
💡
خلاصة الظل: عندما يكون الصمت أبلغ من الصراخ
فان دير سار ليس مجرد حارس مرمى عظيم، بل هو أيقونة
لـ الاحترافية الهادئة والتأثير التكتيكي المستمر، قصته هي دليل على أن
المجد لا يُحسب فقط بعدد الأهداف المسجلة، بل بعدد المآزق التي تم إحباطها في صمت، لقد عاش ومات في "ظل
العمالقة"،
وظل يُقاس دائماً بغيره، رغم أنه كان يمتلك بصمته الفريدة والمتقدمة، لقد كان حارساً يثبت أن الحكمة في كرة القدم لا تأتي دائماً بالصراخ، بل بالثبات
والهدوء، ورغم كل ما قدمه، فإن اسمه لم يُذكر في قائمة الأفضل في عصره بالشكل
المستحق.
والان لقد كشفنا الستار عن رابع أساطير الظل، لكن في عالم
كرة القدم الشاسع، هناك نجوم كثيرون قدموا الكثير، وظلمتهم الأضواء.
🔥
السؤال النقاشي: من برأيكم هو "أسطورة الظل" القادمة؟ ذلك اللاعب المظلوم
إعلاميًا ولكنه كان عادلًا مع اللعبة، والذي يستحق أن يكون بطل مقالنا القادم!