نيران في فلورنسا.. خيانة القديس باجيو وانفجار المدينة

نيران في فلورنسا.. خيانة القديس باجيو وانفجار المدينة

اكتشف الحقيقة الكاملة وراء صفقة روبيرتو باجيو الصادمة من فيورنتينا إلى يوفنتوس عام 1990، المظاهرات، الغضب، ودموع "الفانتازيا الإيطالية" في أول لقاء.

مأساة باجيو العاطفية والتاريخية: بين الركلة المذبوحة ووشاح الخيانة

في ذاكرة عشاق كرة القدم، يتجمد مشهد روبيرتو باجيو الأسطوري في لحظة واحدة: ركلة الترجيح المأساوية التي ماتت واقفة في سماء باسادينا بنهائي كأس العالم 1994، ولا يتذكر الجميع أن تسجيله لتلك الركلة كان سيعطي البرازيليين فرصة أخرى للفوز، لكن إهداره ساهم في حسم اللقب مبكراً، ورغم أن تلك اللحظة القاسية اختصرت مسيرته في عيون البعض، فإن باجيو يظل أحد أفضل وأكثر اللاعبين تأثيراً وحباً في تاريخ كرة القدم الإيطالية والعالمية.

لكن الحكاية التي نتذكرها اليوم هي قصة أخرى عن صراع الوفاء والإغراء، قصة عن ذلك "الساحر الإيطالي" الذي تسبب في اشتعال نيران في فلورنسا، هل يُعقل أن يتحول فنان محبوب إلى سبب لانقسام إيطاليا بين معسكرين؟ كيف يمكن لشغف الجمهور أن يتحول إلى غضب مجنون أُريقت بسببه الدماء؟ إنها قصة عام 1990، والعنوان الرئيسي فيها لم يكن "هدف" أو "لقب"، بل كانت واقعة مدوية ومؤلمة، قصة لم تُكتب بالذهب، بل كُتبت بالدم والدموع، وأثبتت أن الحب الكروي يمكن أن يكون كارثة.

وفي السطور القادمة سنكشف لكم كيف بدأ القديس مسيرته، وتفاصيل المفاوضات التي حوّلته إلى أغلى لاعب في العالم، وسبب بكائه في أول مواجهة مع جماهير "الفيولا" بعد انتقاله الصادم إلى اليوفنتوس.!

ولادة الأيقونة.. باجيو "الشاعر" يسطع في فلورنسا

قبل أن تبدأ الحكاية، يجب أن نعود إلى فيتشينزا، حيث ولد الطفل الذي لم يكن يعلم أحد أنه سيصبح “ذيل الحصان الإلهي”، كانت موهبته ظاهرة، لكنها لم تبدأ بوضوح إلا عندما استقبله فيورنتينا بوعود كبيرة، في ذلك الوقت، لم يكن النادي في أفضل حالاته، لكنه كان يمتلك شيئًا لا يملكه غيره: جماهير تعشق كرة القدم بجنون يجعلها مستعدة للتعلق بأي نجم يمنحها حلمًا جديدًا، جاء باجيو صغيرًا، خجولًا، لكنه جاء ومعه شيء لا يخطئه أحد: القدرة على جعل الكرة تطيعه طاعة كاملة، كأنها جزء من جسده.

الفانتازيا الإيطالية.. من العلاج إلى العبادة 

في عامه الأول تعرض باجيو لإصابة مروعة في ركبته اليمنى (تمزق في الرباط الصليبي والغضروف) تطلبت 220 غرزة وتهديداً بإنهاء مسيرته قبل أن تبدأ، آمنت به إدارة النادي، وتحملت تكاليف علاجه الباهظة، ليصبح هذا الوفاء هو النواة الأولى لرابطة عاطفية لا تُكسر.

لكنه عاد، وعاد مختلفًا؛ أكثر قوة وتحدياً، وأكثر رغبة، ليتحول سريعاً إلى نجم فلورنسا الأول ورمزاً للجماهير، وابناً للمدينة التي منحته حباً لم يشعر به في أي مكان آخر.

أرقام المجد ووشاح الوفاء قبل الانفصال القسري

في موسم 1988-1989، وصل باجيو إلى ذروته، أهداف بمذاق ساحر، وتمريرات تفتح الملعب مثل نافذة على عالم آخر، وحضور نفسي يجعل الخصوم في حالة قلق دائم، قاد باجيو فيورنتينا إلى ربع نهائي كأس إيطاليا خلال موسم 1988-1989، مسجلاً تسعة أهداف، وخرجوا على يد سامبدوريا البطل في النهاية، كان هذا الموسم بمثابة انطلاقته، حيث سجل 15 هدفًا في الدوري الإيطالي، واحتل المركز الثالث في جائزة الحذاء الذهبي للدوري الإيطالي، كما ساعد فيورنتينا على إنهاء الدوري في المركز السابع والصعود لبطولة كأس الاتحاد الأوروبي.

وفي موسم 1989-1990، قاد الفريق إلى نهائي كأس الاتحاد الأوروبي، حيث واجهوا الغريم اللدود يوفنتوس، ورغم خسارة النهائي، إلا أن باجيو كان النجم الأوحد الذي يراه الجميع القادر على إعادة فيورنتينا إلى قمة الكرة الإيطالية.

هذا التوهج جعله على رأس قائمة المطلوبين في أوروبا، لكن في فلورنسا، كان باجيو أكثر من مجرد نجم؛ كان ابناً موالياً للمدينة التي احتضنته في أحلك لحظاته، وخلف الأضواء، كانت الإدارة تعاني من ضائقة مالية لا ترحم. النادي كان بحاجة إلى المال.

المفاوضات السرية.. والصفقة التي حطمت الرقم القياسي

التنازل تحت الضغط: دور العجز المالي والإغراء

في صيف 1990، بينما كانت إيطاليا تستعد لاستضافة كأس العالم، لم يكن الانتقال يطبخ على نار هادئة، بل كان يتم في سرية تامة ومحكمة، بعيداً عن أعين الجماهير التي كانت تعتقد أن أيقونتها في أمان، كانت مفاوضات سرية تحت الطاولة مع يوفنتوس، النادي الثري أراد باجيو بشدة، وكانت المفاوضات مدفوعة بعاملين رئيسيين: الضائقة المالية الكارثية التي كانت تمر بها عائلة بونتيلو المالكة لنادي فيورنتينا آنذاك، والإغراء المالي الجنوني من قِبل عملاق الشمال، حيث قدم عرضًا بلغ 12 مليون يورو… فيورنتينا لم يستطع الرفض، قرار البيع لم يكن رياضيًا… بل اقتصاديًا بحتًا، الشيء الوحيد الذي لم يسأل عنه أحد هو: ماذا يريد باجيو نفسه؟

كان باجيو في خضم هذه المعمعة مجرد ورقة تُباع، على الرغم من إعلانه المتكرر وولائه المطلق لفيورنتينا ورغبته الشديدة في البقاء، لم يكن يملك أي قوة تمنع الصفقة، لقد أُجبر على الخضوع لقرار الإدارة، وبحسب ما كشفه وكيله السابق لوِيجينو بيليغريني، فإن أحد كبار مسؤولي يوفنتوس قال له: “إذا أردت الذهاب إلى كأس العالم، عليك أن تنتقل إلى يوفنتوس الآن” — هذه الكلمات مثلّت نوعًا من الابتزاز المهني، جعل باجيو يرضخ للعرض من أجل مستقبل دولي.

تم تنفيذ الصفقة بمبلغ ضخم جدًا وقتها، حوالي 12 مليون يورو، وهو مبلغ جعله أغلى لاعب في تاريخ كرة القدم العالمية آنذاك.

الغضب يعم فلورنسا.. أيام النار والدم

في 18 مايو 1990، وبعد أسابيع من الشائعات والهمسات، صدر البيان الرسمي الصادم: باجيو ينتقل إلى يوفنتوس مقابل رقم قياسي عالمي، لم يكن البيان مجرد خبر رياضي، بل كان بمثابة إعلان حرب نفسية على المدينة بأكملها، بالنسبة لجماهير فيورنتينا لم تبع عائلة بونتيلو لاعباً بل باعت الروح والوعد الكروي إلى الغريم التاريخي، النادي الذي يمثل كل ما تكرهه فلورنسا من قوة اقتصادية شمالية.

ثلاثة أيام من الفوضى: اشتباكات دموية في الشوارع 

بدأ الذعر في العاصمة التوسكانية عندما أعلن الصحفي تشيزاري كاستيلوتي، على الهواء مباشرة على قناة راي تي في، بعد بث أهداف الدوري الإيطالي الكلاسيكية في يوم أحد عادي، خبر انتقال باجيو إلى يوفنتوس.

بعدها توجه آلاف من جماهير فيورنتينا إلى إلى ساحة سافونارولا، مقر إدارة ناديهم، مطالبين بالحفاظ على نجمهم ورافعين شعارات “خيانة!” و“باجيو لنا!”، في مشهد وصفه البعض بأنه “حرب أهلية كروية 

التوتر سرعان ما تحوّل إلى فوضى، مع مواجهات عنيفة بين المشجعين وقوات الأمن، قامت الشرطة باستخدام الغاز المسيل للدموع، وأحرق المتظاهرون حاويات النفايات، فيما لمّحت بعض المصادر إلى وقوع “اعتقالات وإصابات كثيرة” خلال تلك المواجهات الساخنة.

بلغت الكارثة أوجها عندما أصيب نحو 50  شخصاً (بينهم مشجعون وعناصر من الشرطة) بجروح، وتم اعتقال العشرات، وُصفت الأجواء بأنها كانت أشبه بـ "انتفاضة" ضد سلطة المال التي انتزعت منهم بطلهم.

توتر العلاقة بين فيورنتينا ويوفنتوس تزايد قبل ذلك التاريخ بسنوات، لكن انتقال باجيو كان بمثابة قطرة ماء، فجر بركان العداء القديم بين الفريقين، وأعاد إلى السطح الجراح القديمة لعلاقات الكره بين المدينة ونادي القوة البيضاء.

ما بعد العاصفة: باجيو بين نارين… مدينة غاضبة وقميص ثقيل

بعد أن هدأت نيران الاحتجاجات في شوارع فلورنسا، بدأ الفصل الأصعب في حياة باجيو: الفصل النفسي، لم يكن الامر مجرد تغيير للقميص؛ كان حملاً لـ "عبء الخيانة" الذي ألصقته به جماهير المدينة التي أحبته، في مواسمه الأولى مع "السيدة العجوز"، ورغم محاولاته التركيز على كرة القدم، كان الشبح الأرجواني يطارده، كان يعيش حالة من الانفصام العاطفي: يقاتل لنجاح فريقه الجديد، بينما قلبه ما زال ينبض وفاءً للنادي الذي أنقذه واحتضنه.

أول مواجهة… جرح لم يلتئم

ثم جاءت اللحظة الحاسمة في 7 أبريل 1991، موعد أول مواجهة بين يوفنتوس وفيورنتينا في ملعب أرتيميو فرانكي، الجو كان مرعباً ومكهرباً، استقبلت الجماهير باجيو بوابل من صيحات الاستهجان الصارخة واللافتات الغاضبة التي وصفته بـ "الخائن"، لم تكن مباراة كرة قدم، بل كانت محاكمة علنية للنجم الذي أجبر على الرحيل.

ومنذ اللحظة الأولى لم تتوقف صافرات الاستهجان، حتى حدث ما لم يكن متوقع، عندما احتسب الحكم ركلة جزاء لصالح يوفنتوس هنا اتخذ باجيو قراراً غير مسبوق يكشف عن عمق صراعه الداخلي: رفض التقدم لتسديد الركلة، بحجة أن جيانماتيو ماريجيني حارس مرمى فيورنتينا يعرفه جيدا، تقدم زميله لويجي دي أغوستيني وأهدر الركلة.

وفي الدقيقة 64، قام مدرب يوفنتوس باستبدال باجيو، وفي طريقه للخروج، حدثت اللحظة الخالدة: ألقت الجماهير الغاضبة، وشاح يحمل ألوان الفريق باتجاهه، التقطه باجيو، قبّله أمام أنظار الملعب كله.

لاحقاً، أكد باجيو في أكثر من لقاء صحفي عمق هذا الشعور، قائلاً: "لم أكن أريد مغادرة فلورنسا… كنت أشعر أنني مدين للمدينة ولناسها ولجماهيرها." وأضاف بحزن: "كان هناك أشخاص ينتظرونني بعد أن قضيت أول عامين أعاني فيهما من الإصابات، وقعنا في غرام بعضنا البعض. ووعدت بالبقاء"، وفي مقابلة أخرى، بعد سنوات طويلة من الهدوء، قال: "لم يكن لدي أي ضغينة ضد يوفنتوس، لكنني أردت البقاء في فيورنتينا." .

هكذا تحدث باجيو… هكذا روى جرحه.

وحين تسمع تلك الكلمات، تفهم لماذا احترقَت فلورنسا غضبًا، ولماذا ظلّت هذه الصفقة واحدة من أكثر الانتقالات درامية وتمزقًا في تاريخ كرة القدم الإيطالية.

إرث الخيانة المُقدسة... مسيرة من الوجع والوفاء

عندما ننظر إلى مسيرة باجيو، نكتشف أنها لم تكن مجرد سلسلة من الأهداف والألقاب، بل كانت فصولاً متتابعة من الوجع والوفاء غير المكتمل، لقد ظل هذا الساحر الموهوب، طوال حياته الكروية، وكأنه يحمل صليبه الخاص، مطاردًا بسوء الحظ والظروف القاسية.

بدأت المأساة مبكراً، وهو في الثامنة عشرة من عمره، حين تعرض لإصابة مروعة بقطع في الرباط الصليبي في زمن كانت فيه هذه العمليات أشبه بـ "حكم بالإعدام الكروي" الأطباء أعلنوا استحالة العودة، حيث احتاجت ركبته إلى 220  غرزة، تاركة ندبة عميقة لا تُنسى، من شدة الألم الذي عاناه بعد العملية، لم يجد باجيو مفراً إلا أن يتوسل لوالدته، في لحظة يأس مطلقة، قائلاً لها: "إذا كنتِ تحبينني حقاً، فاقتليني!"

وحين تعافى بأعجوبة، وعاد أقوى ليضيء سماء فلورنسا حباً ووفاءً، جاءت الخيانة من الإدارة التي أنقذته، وباعته إلى الغريم يوفنتوس من أجل المال، لتتحول جماهير "الفيولا" المعشوقة إلى بحر من الكراهية والغضب، وبعد سنوات قليلة، في قمة مجده العالمي، جاءت اللحظة التي اختصرت مأساته أمام العالم: ركلة الترجيح المهدرة في نهائي كأس العالم 1994، لتجعله هدفاً لغضب إيطاليا بأكملها، وكأنه لم يكتفِ بكراهية مدينة واحدة.

لقد كان باجيو قديساً مطارداً، فناناً تحيط به المآسي، لكن في كل مرة سقط، قام أقوى.

وهذا يطرح السؤال الأبدي: لو أن القدر لم يضع في طريقه الـ 220 غرزة، ولا الخيانة المالية، ولا ركلة الترجيح القاتلة... لو أن "الفانتازيا الإيطالية" لم تكن موجوعة دوماً، فكيف كانت ستبدو مسيرته الخارقة؟ لربما كان ليحكم كرة القدم بلا منازع، لكن المؤكد أن قصته لن تكون بهذه الملحمية والخلود.

المصادر

1.     إذا أردت الذهاب إلى كأس العالم 1990، عليك أن تنتقل إلى يوفنتوس

2.      لم يكن لدي أي ضغينة ضد يوفنتوس، لكنني أردت البقاء في فيورنتينا

3.      لم أكن أرغب في مغادرة فلورنسا، شعرت بالامتنان

4.     اشتباكات دموية في الشوارع بسبب الانتقال



تعليقات