عندما دخلت إفريقيا قلب أوروبا
تحت سماء القارة العجوز، لم يكن الذهب الأوروبي حكراً على أبنائها فحسب؛ بل كانت "ماما أفريقيا" هي الممول للسحر، القوة، والدراما في ليالي دوري أبطال أوروبا، منذ اللحظة التي ركض فيها الأساطير على عشب الملاعب الأوروبية، لم يكتفوا بترك بصمة، بل أعادوا تعريف معنى البطولة.
تبدأ الحكاية من "كعب" ذهبي في فيينا عام 1987، عندما قرر الجزائري رابح ماجر أن يكتب التاريخ بحروف من نور بقميص بورتو وأمام العملاق بايرن ميونخ، لم يكن مجرد هدف، بل كان إعلاناً رسمياً: الأفارقة هنا لسيادة أوروبا.
بعده بسنوات، فتح جورج ويا أبواب المجد الإفريقي على مصراعيها حين قاد مارسيليا لمنصة التتويج، قبل أن يصبح أول إفريقي يفوز بالكرة الذهبية.
ومن هناك… لم تعد إفريقيا ضيفًا في دوري أبطال أوروبا، بل أصبحت صاحبة تأثير، وأحيانًا صاحبة القرار، من إيتو ودروجبا، مرورًا بصلاح وماني، وصولًا إلى أشرف حكيمي… يظل السؤال حاضرًا: من هو أفضل لاعب إفريقي في دوري أبطال أوروبا؟
أشرف حكيمي: القطار المغربي الذي لا يتوقف
بدأت رحلة "القطار المغربي" من أزقة مدريد، حيث نشأ في أكاديمية "لافابريكا" التابعة للنادي الملكي، وفي موسم 2017/2018، وبقرار جريء من زين الدين زيدان، دشن حكيمي مسيرته في دوري أبطال أوروبا وهو لم يتجاوز الـ19 من عمره، ورغم أنه لم يشارك كثيرا، إلا أنه دخل التاريخ كأول لاعب مغربي يتوج باللقب، ليضع بصمته الأولى على الكأس "ذات الأذنين" في سن المراهقة.
التحول الحقيقي جاء مع الانتقال إلى بوروسيا دورتموند، حيث تحوّل الظهير الشاب إلى آلة هجومية، في دوري الأبطال مع الفريق الألماني، قدّم حكيمي أرقامًا لافتة من حيث الانطلاقات، التمريرات المفتاحية، والمساهمات التهديفية، وأثبت أن الظهير العصري لم يعد يكتفي بالدفاع، سرعته التي تخطّت 36 كم/س (وفق تقارير الاتحاد الأوروبي UEFA) جعلته أحد أسرع لاعبي البطولة، وسلاحًا تكتيكيًا يصعب إيقافه.
ثم جاءت تجربة إنتر ميلان، حيث نضج تكتيكيًا، قبل أن يبلغ ذروة تأثيره الأوروبي مع باريس سان جيرمان، لم يعد حكيمي مجرد ظهير أيمن، بل جناحًا إضافيًا، يفتح الملعب، ويخلق التفوق العددي، ويساهم تهديفيًا ومع تتويجه الأخير بدوري أبطال أوروبا، دخل حكيمي تاريخ البطولة من أوسع أبوابه، كأحد أكثر المدافعين الأفارقة مشاركة وتأثيرًا في العصر الحديث.
يُعد أشرف حكيمي المغربي الأكثر مشاركة في تاريخ دوري أبطال أوروبا، إن قصة حكيمي ليست مجرد ألقاب عابرة، بل هي رحلة تنقل ملهمة عبر أربعة من أكبر دوريات العالم (الإسباني، الألماني، الإيطالي، والفرنسي)، محافظاً على جودته الاستثنائية كـ "جناح متنكر" في هيئة مدافع، ومثبتاً أن الموهبة الأفريقية قادرة على تسيد القارة العجوز من الرواق الأيمن وبسرعة البرق.
ساديو ماني: المحارب السنغالي وسيد الأدوار الإقصائية
في دوري أبطال أوروبا، هناك لاعبون يتألقون في دور المجموعات، وهناك لاعبون يُصنع اسمهم في النار… وساديو كان دائمًا من الفئة الثانية، منذ لحظة وصوله إلى ليفربول في صيف 2016، أصبح النجم السنغالي قطعة أساسية في مشروع كلوب الأوروبي، لاعبًا لا يُقاس تأثيره بعدد الأهداف فقط، بل بتوقيتها.
ماني خاض مع ليفربول واحدة من أعظم الفترات الأوروبية في تاريخ النادي، حيث شارك في 3 نهائيات لدوري أبطال أوروبا خلال 5 مواسم (2018، 2019، 2022)، وتُوِّج باللقب في نسخة 2019 بعد موسم استثنائي، خلال مسيرته الأوروبية سجل ماني 27 هدفًا في دوري أبطال أوروبا، أكثر من 15 هدفًا منها جاءت في الأدوار الإقصائية، وهي نسبة نادرة تعكس لاعبًا يعيش للحظات الكبرى.
وفي موسم 2017/2018، كان ماني الهداف المشترك للبطولة بـ 10 أهداف، وقاد ليفربول إلى النهائي لأول مرة منذ 2007، أما في نسخة 2019، فكان حاضرًا بقوة في نصف النهائي أمام برشلونة، حين شارك في العودة التاريخية (4-0) التي لا تزال تُدرّس كأعظم “ريمونتادا” في تاريخ المسابقة.
ولا يمكن نسيان لحظة ميونخ الشهيرة، حين راوغ مانويل نوير بلمسة ذكية وسجّل هدفًا أيقونيًا، مؤكّدًا أنه ليس مجرد جناح سريع، بل لاعب يملك ذكاءً تكتيكيًا قاتلًا.
ما يميز ماني عن أقرانه هو "التوازن الإعجازي"؛ فهو المهاجم الذي لا يتوقف عن الضغط الدفاعي واستعادة الكرات، وهو ذاته القناص الذي ينهي الهجمات ببرود قاتل، لقد أثبت أن النجاح في دوري الأبطال لا يتطلب الموهبة فحسب، بل يتطلب قلب محارب يرفض الانكسار، مما يجعله رقماً صعباً في معادلة "الأفضل في تاريخ أفريقيا".
ديديه دروغبا: ملك ميونخ والقائد الأبدي
عندما يُذكر دوري أبطال أوروبا، تُستحضر أسماء كثيرة، لكن حين يتعلق الأمر بالتأثير الحاسم في اللحظات المستحيلة، يتقدّم اسم ديديه دروغبا بثبات، الإيفواري لم يكن مجرد مهاجم في تشيلسي، خصوصًا في نسخة 2011/2012 التي تحوّلت إلى ملحمة كروية خالدة.
نسخة 2012، هي تجسيد حي لمفهوم البطل الذي يحمل نادياً على كتفيه ليواجه المصير، لولا "الفيل الإيفواري"، لكانت رحلة تشيلسي قد انتهت مبكراً؛ فهو من أشعل شرارة العودة التاريخية (الريمونتادا) أمام نابولي في دور الـ16 برأسية افتتحت الطريق للفوز 4-1، وهو من صعق برشلونة "غوارديولا" في ذهاب نصف النهائي بهدف حاسم منح الفريق الثقة لإقصاء حامل اللقب.
أما لحظة الذروة التي خلدت اسمه في سجلات الخلود، فكانت في "أليانز أرينا"، في الدقيقة 88، وبينما كانت جماهير بافاريا تستعد للاحتفال، ارتقى دروغبا فوق الجميع ليحول ركنية ماتا إلى قذيفة رأسية "مستحيلة" سكنت شباك نوير، معيدةً تشيلسي من الموت الكروي، لم ينتهِ الدور القيادي هنا، بل وبأعصاب باردة كالجليد، تقدم ليسدد ركلة الترجيح الأخيرة والفاصلة، مانحاً "البلوز" لقبهم الأول والوحيد آنذاك، ومحولاً ميونخ إلى ولاية تابعة لسيادته.
رقمياً، سجل دروغبا 44 هدفاً خلال 92 مباراة خاضها في البطولة، مما يجعله ثاني أكثر هداف أفريقي تاريخياً، وأول لاعب من القارة السمراء يكسر حاجز الـ40 هدفاً في دوري الأبطال، تأثير دروغبا تجاوز الأرقام؛ فقد كان قائداً يبث الرعب في نفوس المدافعين بمجرد وجوده في النفق المؤدي للملعب، ومهاجماً لا يكتفي بالإنهاء، بل يقاتل في كل شبر، ليثبت أن "الجرينتا" الأفريقية هي من طوعت الذهب الأوروبي في ليلة ميونخ الخالدة.
محمد صلاح: الملك المصري الذي طوّع المستحيل
لم يكن طريق المصري مفروشًا بالذهب منذ البداية، بل كُتب بالعرق والخذلان قبل أن يُتوَّج بالمجد، موسم 2017/2018 كان لحظة الانفجار الكروي لصلاح، حين قاد ليفربول إلى النهائي بعد أداء إعجازي، سجّل خلاله 10 أهداف في البطولة، منها ثنائية أمام روما في نصف النهائي، حيث كان في ذروة توهجه، مرشحًا للكرة الذهبية، ورمزًا لقارة كاملة… قبل أن تأتي لحظة الانكسار.
في نهائي كييف 2018، سقط صلاح مصابًا بعد تدخل عنيف من راموس، وغادر الملعب باكيًا، تلك الإصابة غيّرت مسار النهائي بأكمله، كثيرون يرون أن خسارة ليفربول اللقب نتيجة مباشرة لخروج صلاح، اللاعب الذي كان قلب المشروع وروحه الهجومية.
لكن العظماء لا يتوقفون عند الألم، عاد صلاح في موسم 2018/2019 أكثر نضجًا، لم يكن أكثر اللاعبين تسجيلًا فقط، بل الأكثر تأثيرًا في اللحظات الحاسمة، سجّل 5 أهداف في تلك النسخة، ووقف في نهائي مدريد أمام توتنهام بثبات، ليسجل هدف التقدم من ركلة جزاء بعد دقيقتين فقط، ويقود ليفربول نحو لقبه السادس، كانت لحظة ثأر كروي، وإغلاق دائرة الألم.
بالأرقام، أصبح صلاح الهداف الأفريقي التاريخي في دوري أبطال أوروبا برصيد تجاوز 48 هدفًا، متفوقًا على دروغبا وإيتو، مع استمرارية نادرة في التسجيل أمام كبار أوروبا, صلاح لم يكن مجرد جناح هدّاف، بل لاعب غيّر نظرة أوروبا للاعب الأفريقي والعربي، وكتب اسمه في قلب البطولة الأهم.
من دموع كييف… إلى فرحة مدريد، كتب محمد صلاح قصة لاعب لا يُقاس فقط بعدد الأهداف، بل بقدرته على النهوض، وصناعة المجد من الألم.
صامويل إيتو: الأسد الذي أخضع أوروبا بقميصين مختلفين
إذا كان النجاح في "ذات الأذنين" يُقاس بالذهب الخالص، فإن إيتو يغرد وحيداً في فضاء لا يطاله غيره؛ فهو ليس مجرد هداف، بل هو "صياد النهائيات" واللاعب الذي جعل من أوروبا غابة يدين ملوكها بالولاء لزئيره، يُعد إيتو اللاعب الأفريقي الوحيد في العصر الحديث الذي رفع الكأس الغالية 3 مرات، لكن القصة ليست في العدد فحسب، بل في الكيفية الإعجازية التي طوع بها المجد بقميصين مختلفين.
بدأت ملامح الأسطورة مع برشلونة؛ حيث تقمص إيتو دور "المنقذ" في نهائي 2006 بباريس، مسجلاً هدف التعادل القاتل ضد أرسنال ليمهد الطريق للقب، ولم يكتفِ بذلك، بل عاد في نهائي روما 2009 ليفتتح التسجيل ببرود مرعب في شباك مانشستر يونايتد، ليصبح الأفريقي الوحيد الذي هز الشباك في نهائيين مختلفين، ولكن، الفصل الأكثر إثارة في رواية إيتو عندما انتقل إلى إنتر ميلان، حقق ما عجز عنه الجميع: الفوز بـ "الثلاثية التاريخية" مرتين متتاليتين مع فريقين مختلفين (2009 مع البارسا و2010 مع الإنتر)، وهو إنجاز يبدو مستحيلاً في كرة القدم الحديثة.
رقمياً، سجل إيتو 30 هدفاً في 78 مباراة في البطولة لكن قيمته الحقيقية تكمن في كونه "تميمة الحظ" التي تضمن لك اللقب، إيتو لم يكن مجرد مهاجم أفريقي عظيم، بل كان العقل المدبر الذي أثبت أن الموهبة السمراء قادرة على حكم القارة العجوز ببراعة تكتيكية لا تقل عن قوتها البدنية.
🏆 أفارقة لن ينساهم التاريخ
خلف الخماسي المرعب، تقف قائمة من "الجنود المجهولين" والعباقرة الذين لولاهم لما اكتملت لوحة المجد الأفريقي في القارة العجوز، لا يمكن ذكر السحر الفني دون التوقف عند رياض محرز؛ النجم الجزائري الذي لم يكتفِ بلمساته السينمائية، بل كان المهندس الحقيقي لوصول مانشستر سيتي لنهائي 2021 بتسجيله 3 أهداف حاسمة في نصف النهائي ضد باريس سان جيرمان، قبل أن يرفع الكأس الغالية في 2023.
وبالحديث عن التضحية التكتيكية، يبرز اسم يحيى توريه، الذي قدم تضحية في نهائي روما 2009 مع برشلونة؛ حيث تخلى عن مكانه كمحرك للوسط ليلعب كـ "قلب دفاع" أمام هجوم مانشستر يونايتد، ليثبت أن الذكاء الأفريقي قادر على سد الثغرات في أصعب الظروف، أما الجانب العاطفي للبطولة، فيجسده الصخرة الغانية صامويل كوفور، الذي بكت معه أفريقيا بأكملها وهو يضرب الأرض بعد خسارة نهائي 1999 الدرامي، قبل أن يبتسم له القدر ويتوج باللقب مع بايرن ميونخ عام 2001.
وبعد كل هذه القصص، الأرقام، واللحظات الخالدة، يبقى السؤال مفتوحًا بلا إجابة قاطعة، هل الأفضل هو من جمع البطولات؟ أم من حسم النهائيات؟ أم من غيّر صورة اللاعب الأفريقي في أوروبا إلى الأبد؟.
فمن هو الأفضل حقًا؟