منذ عقود، عُرف الدوري الانجليزي بأنه مسرح لا ينضب من الإثارة والدراما، هناك لا تُحسم البطولات بالنجوم فقط، بل بلحظات الجنون، حيث تتغير فيها الموازين من جولة لأخرى، حيث يكتب التاريخ أحيانًا في دقيقة، ويُمحى في الأخرى، ووسط هذه الأجواء جاء موسم 1988-1989 ليقدّم واحدة من أكثر القصص إثارة في تاريخ كرة القدم الإنجليزية، صراع محتدم بين ليفربول عملاق إنجلترا، وأرسنال الباحث عن مجده الضائع منذ 18 عامًا، المنافسة وصلت إلى آخر محطة، إلى ليلة حاسمة في أنفيلد، حيث كان لا بد من بطل واحد، فكيف وصلت المنافسة إلى هذه النقطة الملتهبة؟!
كيف بدأ موسم 1989؟ الطريق نحو أنفيلد
تفوق أرسنال في الدور الأول
موسم 1988-1989 من الدوري الإنجليزي لم يكن عاديًا، بل كان مليئًا بالتقلبات التي جعلت كل جولة تبدو كفصل جديد من رواية مثيرة، في النصف الأول من الموسم بدا أن أرسنال هو المرشح الأقوى للقب، فقد أنهى الدور الأول وهو على قمة الترتيب بفضل صلابة دفاعه وخط وسط يقوده بول ميرسون ومايكل توماس، حيث حصد 38 نقطة من 11 فوز 5 تعادل والهزيمة في 3 مبارايات فقط، وخلفه نوريتش سيتي بـ37 نقطة، وخلفهم ايفرتون بـ33 ومن بعيد في المركزي الخامس والسادس ليفربول ومانشستر يونايتد بـ28 و27 نقطة!
المعجزة الليفربولية: العودة من الموت إلى الصدارة
لكن كرة القدم لا تكتب سيناريوهاتها مسبقًا! مع تقدم الموسم، حدث ما لم يتوقعه أحد، تحول ليفربول إلى آلة انتصارات لا تُوقف، خلال أول 10 جولات من الدور الثاني، قاد الثنائي جون بارنز وبيتر بيردسلي عملية انقلاب كروي مذهلة، حيث فاز الفريق في 8 مباريات وتعادل في 2، بينما بدأ أرسنال يفقد توازنه بخسائر مفاجئة أمام فرق متوسطة، صعد ليفربول في الترتيب الي المركز الثاني بفارق نقطتين فقط عن أرسنال.
بدأت الكارثة لأرسنال في الجولة 31، حينما تعثر أمام تشارلتون بتعادل مثير 2-2 في الدقائق الأخيرة، وفي نفس الجولة، كان ليفربول يراقب باهتمام قبل أن يضرب بكل قوته، حيث سحق ديربي كونتي بهدف نظيف سجله النجم جون ألدريج ليتشاركو الصدارة معاً.
لكن الدراما الحقيقية جاءت في الجولة 32، عندما قدم أرسنال هدية ثمينة لخصمه بتعادل مخيب أخر 1-1 مع مانشستر يونايتد في أولد ترافورد، بينما كان ليفربول ينهي أحلام نوريتش سيتي بالمنافسة بهزيمة قاسية بنتيجة 1-0 في كارو رود، لينهي الشراكة ويتصدر منفرداً!
وفي الجولتين 33 و34، أظهر الفريقان إصراراً لا يتزعزع، حيث سحق كل منهما خصومه، ليصل الجميع إلى المواجهة المصيرية في الجولة 35 بقلوب تنبض بالحماس وأعصاب مشدودة إلى أقصى حد.
هل كنت تعلم أن هذه السلسلة من النتائج جعلت مواجهة الجولة 35 أشبه بمباراة نهائية؟ انتظر حتى تعرف كيف تحول أنفيلد إلى مسرح لأعظم دراما في تاريخ الكرة الإنجليزية
كارثة هيلزبره وتأجيل القمة المرتقبة
في 15 أبريل 1989، تحولت مباراة ليفربول ونوتنجهام فورست في نصف نهائي كأس إنجلترا إلى كابوس مروع، بسبب سوء التنظيم والازدحام الشديد في مدرجات هيلزبرة، وقع تدافع مروع أدى إلى سقوط 96 مشجعًا من جماهير الريدز ضحايا، محاصرين خلف الأسوار الحديدية التي كانت تُستخدم لمواجهة العنف الجماهيري، الكارثة صدمت إنجلترا وأجبرت السلطات على تأجيل مواجهة القمة بين ليفربول وأرسنال في الجولة 35، ولم يتم العثور على تاريخ مناسب سوي بعد نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي، وتم إعادة جدولتها في النهاية إلى 26 مايو، مما ضاعف من أهميتها وحوّلها إلى نهائي مصغر للدوري.
المشهد الأخير: صراع الجولات الاخيرة
شهدت الجولات الأخيرة من الدوري الإنجليزي موسم 1988-1989 منعطفات درامية كرست أسطورة المنافسة، في الجولة 36، انطلق أرسنال كالإعصار ليسحق نوريتش سيتي بخماسية صاعقة، بينما تعثر ليفربول في ديربي الميرسيسايد بتعادل سلبي أمام إيفرتون، وفي الجولة 37 حملت انتصارًا ثمينًا للأرسنال بهدف نظيف أمام ميلدزبره، بينما رد ليفربول بثنائية مثيرة أمام كوينز بارك رينجرز، لكن المفاجأة الكبرى جاءت في الجولة 38، حينما سقط أرسنال أمام ديربي كونتي بنتيجة 2-1، في نفس الوقت الذي كان فيه ليفربول يتغلب على ويمبلدون بنتيجة مماثلة، لتصبح كل التوقعات معلقة على المواجهة المباشرة المؤجلة بين العملاقين - المباراة التي ستكتب التاريخ في الأنفيلد.
وكان ترتيب الدوري على النحو التالي:
هذا يعني أن ليفربول كان يحتاج فقط إلى التعادل أو حتى الخسارة بفارق هدف واحد ليتوج باللقب، بينما لم يكن أمام أرسنال سوى الفوز بفارق هدفين أو أكثر في أنفيلد معقل الرعب الأحمر، وهو أمر بدا أقرب إلى المستحيل، حيث لم يخسر ليفربول بفارق هدفين أو أكثر على ملعبه منذ ثلاث سنوات، ولم يُحقق أرسنال الفوز هناك منذ خمس عشرة سنة !
ليلة أنفيلد: عندما تحدى المستحيل نفسه
المباراة.. البداية الحذرة
انطلقت صافرة البداية وسط أجواء مشحونة بالتوتر ليفربول لعب بثقة، معتمدًا على السيطرة والتمريرات القصيرة بقيادة جون بارنز وألدريدج، بينما دخل أرسنال بحذر دفاعي منظم مع محاولة خطف هدف مبكر يعيد الأمل، الشوط الأول انتهى سلبيًا (0-0)، وهو ما جعل جماهير ليفربول أكثر هدوءًا، بينما بدأ القلق يتسلل لقلوب جماهير أرسنال.
هدف أرسنال الأول.. الشرارة
مع بداية الشوط الثاني، حصل أرسنال على ركلة حرة نفذها نايجل وينتربيرن، لترتفع الكرة داخل المنطقة ويضعها ألان سميث برأسية قوية في شباك غروبيلار، النتيجة أصبحت 1-0، ليقترب أرسنال خطوة من المعجزة، لكنه ما زال يحتاج إلى هدف آخر ليقتنص اللقب.
الوقت بدل الضائع..
مرت الدقائق سريعًا، وكل شيء يشير إلى أن ليفربول سيحسم اللقب رغم الخسارة، وصلت المباراة إلى الدقيقة 91، وكانت الكرة مع خط وسط أرسنال، مرر لي ديكسون كرة طويلة إلى ألان سميث الذي هيأها بلمسة ذكية إلى مايكل توماس، لينفرد بالحارس غروبيلار.
الجماهير في أنفيلد حبست أنفاسها… توماس يتقدم… المعلق براين مور بدأ صوته يرتجف وهو يصرخ "Thomas, it's up for grabs now" يسدد الكرة بهدوء في الشباك النتيجة أصبحت 2-0، الصمت المطبق يخيم على أنفيلد، بينما يقفز لاعبو أرسنال في نشوة الجنون، الجماهير لا تصدق ما تراه، لقد حدث المستحيل أرسنال يخطف اللقب في آخر دقيقة بأرض المنافس! في مشهد يُعتبر حتى اليوم أحد أعظم لحظات الدراما في تاريخ الدوري الإنجليزي.
إرث ليلة أنفيلد
لم تكن تلك الليلة مجرد نهاية لموسم كروي، بل تحفة درامية كُتبت بعزيمة لا تقهر، تلك الليلة علّمتنا أن كرة القدم ليست رياضةً فحسب، بل مدرسةً للحياة ففي لحظة واحدة، تحول المستحيل إلى حقيقة، وانقلبت موازين القوة رأساً على عقب، أرسنال الذي كان الجميع يستبعدونه، كتب أسطورةً بأقدام لاعبية، بينما تعلّم ليفربول أن التاج لا يوضع على الرأس قبل رفع الصافرة، هذا الموسم بأكمله - من صراع الجولات الأخيرة إلى المباراة المصيرية - كان تحفةً من دروس الإرادة، أن النجاح ليس للأقوى فقط، بل للأكثر إصراراً، وأن كل ثانية في الملعب قد تكون صفحةً جديدة في التاريخ، اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود، ما زال العالم يتذكر ليلة أنفيلد 1989 ليس فقط كمعركة كروية، بل كأسطورة تذكّرنا دائماً: في كرة القدم، كما في الحياة، لا تنتهي القصة حتى تُكتب الكلمة الأخيرة.
لكن يبقى السؤال: ما هي أكثر المواسم الكروية في الدوري الانجليزي التي شهدت أثارة حتي الرمق الاخيرة؟
شاركنا برأيك...
(المصادر)
1- ترتيب الدوري الانجليزي ونتائج المبارايات في موسم 1988/1989
2- الدقائق الاخيرة من مباراة ليفربول وأرسنال