دموع الوداع التي هزت العالم
05 سبتمبر 2025
هناك لحظات في كرة القدم تتجاوز حدود اللعبة، لحظات يتوقف فيها الزمن ويصبح الملعب مسرحًا للخلود، على أرضية الملعب لم تكن مباراة الوداع مجرد 90 دقيقة، بل لوحة إنسانية جسدها ليونيل ميسي بدموعه وهو يودّع وطنه للمرة الأخيرة كانت الدموع أكبر من كرة القدم؛ شهادة صامتة على مسيرة أسطورة عصرية تترك خلفها تاريخًا مليئًا بالعاطفة والانتصارات.
لم تكن تلك الدموع التي انهمرت من عينيّه أثناء النشيد الوطني مجرد قطرات ماء مالحة... لكانت شهادات حية على رحلة عمر كامل، كانت حروفاً من نور تكتب فصل الختام في ملحمة إنسانية لم يشهدها العالم من قبل.
تخيلوا معي المشهد: ميسي يقف هناك، الطفل الذي غادر روزاريو ذات يوم وهو يحلم بلعب مباراة واحدة فقط بقميص "الألبِيسيليستِي"، ها هو اليوم يخوض مباراته الأخيرة بعد أن أصبح أفضل لاعب في التاريخ... بعد أن حقق كل ما يمكن تحقيقه.
لكن هذه الدموع لم تكن دموع ضعف... بل كانت دموع قوة نادرة، دموع رجل ظل يكافح لعقود ليرسم البسمة على وجوه 45 مليون أرجنتيني، دموع طفل لم يتخلَ عن حلمه في أحلك اللحظات، دموع بطل قرر أن يخوض معركته الأخيرة وهو يعلم أن كل عين في الأرجنتين تنظر إليه بحبٍ لا ينتهي.
تلك الدموع لم تكن سوى نهاية فصل من فصول الأفضل في التاريخ، وما بين البداية والنهاية، هناك قصة لم يكتبها أكثر المخرجين جنونًا في السينما، لأن بداية ميسي لم تكن حكاية طفل محظوظ، بل كانت صراعًا مع القدر، ومعركة مع الجسد، وولادة حقيقية لبطل سيُعيد تعريف معنى الأسطورة، كانت بدايته أصعب من أي سيناريو على شاشة، وقصته لم تكن مجرد كرة تُركل على العشب، بل رحلة صعود الأبطال.
من روزاريو إلى برشلونة
1987
وُلد ليونيل أندريس ميسي في مدينة روزاريو عام 1987، ومنذ نعومة أظافره، كان واضحًا أن بين قدميه شيئًا لا يُصدّق، لكنه واجه تحدياً جسيماً عندما شُخّص بنقص هرمون النمو، وكانت تكلفة علاجه الباهظة تهدد أحلام الصغير بالاندثار.
2000
في عام 2000، قدمت برشلونة حلاً لمشكلة نقص هرمون النمو، وفتحت أبوابها للطفل المعجزة، انتقل ميسي إلى أكاديمية لا ماسيا، مبتعداً عن وطنه وأهله، وفي برشلونة صُقل موهبته حتى أصبح أعجوبة، حاول الاتحاد الإسباني بكل الطرق منحه الجنسية الإسبانية، لكن الفتى الصغير قلبه ظل ينبض لبلاد الفضة، حيث بدأ الحلم..
كأس العالم للشباب.. ميلاد الأسطورة
2005
في صيف 2005، كانت هولندا على موعد مع ولادة نجم جديد سيهز أركان كرة القدم، المنتخب الأرجنتيني للشباب دخل البطولة وهو لا يُعد المرشح الأبرز، لكن عيون المتابعين سرعان ما تحولت إلى شاب قصير القامة، بملامح خجولة، لكنه يملك قدماً يسرى كالعاصفة، ليونيل ميسي. في كل مباراة، كان "البرغوث" ينسج لحظة سحرية جديدة، مراوغة تربك المدافعين، تمريرة تفك شفرة الدفاع، أو هدف يكتب التاريخ، قاد الأرجنتين نحو النهائي ضد نيجيريا، وهناك سجّل هدفين من ركلتي جزاء ليمنح بلاده اللقب، وينهي البطولة كأفضل لاعب وهدافها برصيد 6 أهداف.
أول ظهور لميسي مع المنتخب الأول
17 أغسطس 2005
في لحظة مصيرية، حاول الاتحاد الإسباني جاهداً مرة أخري ضمّ ميسي لصفوفه، وفي 17 أغسطس 2005، تم استدعائه لمنتخب الأرجنتين الاول لقطع كافة الطرق على أسبانيا، خاض ميسي أول مباراة له أمام المجر حيث دخل بديلًا في الدقيقة 63، والكل يترقب لمسته الأولى، لكن بعد 43 ثانية فقط تلقى بطاقة حمراء صادمة إثر التحام مع مدافع المجر، بداية مأساوية لرحلة مجيدة، وكأن الأقدار كانت تختبر إرادة الأسطورة منذ خطوته الأولى مع المنتخب!
بداية اللعنة: كأس العالم 2006
2006
في مونديال ألمانيا 2006، استُدعي ميسي، ليخوض أول مونديال في مسيرته، بدأ على مقاعد البدلاء ثم شارك في الدقيقة 74 أمام صربيا والجبل الأسود ليصبح أصغر لاعب يشارك في المونديال في تاريخ الارجنتين، لم يحتج سوى لدقائق معدودة لينقض مثل الصقر، فيصنع هدفاً ثم يسجل آخر، ليكتب أولى صفحات أسطورته العالمية، حيث أصبح أصغر لاعب في تاريخ كأس العالم (18 عام 357 يوم) يسجل ويصنع في مباراة واحدة!
واصل بزوغ نجمه أمام هولندا والمكسيك، حيث كان كل ظهور له يحمل وعدًا بمستقبل مختلف، لكن الدراما لم تكتمل كما حلم بها الملايين؛ ففي ربع النهائي أمام ألمانيا، قرر المدرب خوسيه بيكرمان تركه على مقاعد البدلاء، قرار اعتبره كثيرون خطيئة لا تُغتفر، حيث كان ليو في كل دقيقة له على أرض الملعب يصنع الفارق بسرعته ومراوغته وهُزم منتخب الارجنتين بركلات الترجيح، بينما ظل ميسي على الخط يراقب النهاية بعيون صامتة هناك.
بدأت الحكاية المرة: لعنة ستطارده لسنوات طويلة.
بدأت الحكاية المرة: لعنة ستطارده لسنوات طويلة.
كوبا أمريكا 2007 – البداية المرة
2007
دخل ميسي البطولة محاطًا بجيل من النجوم الكبار: تيفيز، كريسبو، زانيتي، فيرون، أيالا، وريكلمي، جيل قادر على إعادة أمجاد "التانجو"، كان الأمل أن يحصد الفتى الذهبي أول ألقابه الدولية، فشارك في كل المباريات ولم يكن مجرد لاعب بين النجوم، بل كان البرق الذي يخطف الأضواء في كل مرة يلمس فيها الكرة، حيث قدم أداءً هجوميًا مبهرًا، صنع هدف في المباراة الافتتاحية أمام منتخب أمريكا ثم سجل في ربع النهائي أمام بيرو، قبل أن يكتب لحظة خالدة في نصف النهائي ضد المكسيك، عندما أطلق كرة مقوسة سكنت الشباك لتُدرَج لاحقًا ضمن أجمل أهداف البطولة، بدا وكأن القدر يفتح له أبواب المجد مبكرًا، لكن الحلم انكسر فجأة في النهائي الأرجنتين بكل نجومها، سقطت بثلاثية نظيفة أمام البرازيل، على الورق كان مجرد خسارة، لكن على قلب ميسي كان بداية الجرح كان ذلك أول نهائي يخسره مع المنتخب، ومعه بدأ طريق طويل من الإحباطات، ورغم فوزه بجائزة أفضل لاعب شاب في البطولة، لم يكن يعلم أن تلك كانت مجرد المقدمة... وأن القادم أكثر مرارة.
أولمبياد بكين 2008 – الذهب الأول
2008
في صيف 2008، وجد ميسي نفسه في صراع جديد بين الحلم والواجب، برشلونة رفض السماح له بالمشاركة في أولمبياد بكين، خوفًا من الإصابة ولارتباط الفريق بتصفيات دوري أبطال أوروبا، لكن جوارديولا الذي كان قد تولى تدريب الفريق حديثًا، تدخل وطلب من الإدارة السماح له بالذهاب، وأخبره بيب أنه يمكنه الذهاب بشرط واحد فقط... أن يعود بالميدالية الذهبية، ووعده ميسي بذلك.
في بكين، تحول الوعد إلى حقيقة مذهلة، قاد ميسي جيلاً ذهبياً من النجوم الشباب، منهم أغويرو ودي ماريا، مدعوماً بخبرة ماسكيرانو وريكيلمي، ليصعد الي المباراة النهائية، ويصنع بلمسة ساحرة هدف الفوز لدي ماريا، ليحمل الذهب على صدره ويبتسم أخيرًا.
كأس العالم 2010: القيادة تحت نار الانتقادات
2010
في جنوب إفريقيا، عاد الأرجنتينيون ليحلموا من جديد، قاد دييغو مارادونا سفينة الأرجنتين، رغم افتقاره لأي خبرة تدريبية، لكن مجرد اسمه كان كافيًا ليشعل نار الأمل في قلوب الملايين، ومعه ميسي يدخل المونديال لأول مرة وهو على القمة، أفضل لاعب في العالم، رمزًا لجيل كامل ينتظر الخلاص منذ 1986، في دور المجموعات، أبدع كالمحترفين في رسم اللعب وخلق الفرص، لكن الشباك أبَت أن ترحمه، حتى عندما سحقوا المكسيك 3-1 في دور الـ 16، ظل هدف ميسي الأول في المونديال حلماً بعيد المنال.
لكن القدر كان يُخبئ درسًا قاسيًا في ربع النهائي، اصطدم الأرجنتينيون بألمانيا، وهناك تحولت الأحلام إلى كابوس، رباعية نظيفة مزقت شباك التانجو، ولم تنفع لمسات ميسي ولا محاولاته، خرج من البطولة دون أي هدف، لكنه خرج محمّلاً بعبء أثقل، بخيبة أمة، وآمال محطمة، ومسؤولية إعادة البسمة إلى شعب لم يتوقف عن الإيمان بأسطورته الصغيرة، حتى في أحلك لحظات السقوط.
كوبا أمريكا 2011 – اللعنة تزداد عمقًا
2011
بعد صدمة المونديال، حاول البطل أن يمسح دموع شعبه، ووعد الجماهير بأنه سيُهديهم كأس كوبا أمريكا التي تستضيفها الأرجنتين، لكن الأقدار كانت تخبئ له ضربةً أقسى، مرة أخرى بدا وكأن لعنة تسجيل الهدف تلاحقه كظله كل تسديدة، كل مراوغة، كل لحظة أمل، كانت تنتهي عند عتبة المرمى وكأن لعنة غامضة تلاحقه من بطولة إلى أخرى.
وفي ربع النهائي، جاءت الضربة القاضية، حين اصطدم التانجو بمنتخب أوروجواي العنيد، ليمتد اللقاء إلى ركلات الترجيح… وهناك انتهى الحلم، خرجت الأرجنتين من البطولة وسط صدمة جماهيرها وصافرات استهجان، وكأنهم يحمّلونه وحده خيبة الوطن، كانت لحظة قاسية، لحظة جعلت اللعنة تبدو أعمق وأكثر إيلامًا، وكأن طريق المجد الدولي مسدود أمامه.
خاتمة الجزء الأول: نهاية البداية... وبداية النهاية
ها هو البطل يسقط على ركبتيه مرة أخرى، لكن هذه المرة مختلفة هذه ليست نهاية القصة، بل هي مجرد نهاية الفصل الأول فقط من ملحمة أسطورية ستبكي منها عيون التاريخ وتتحدث عنها الأجيال القادمة، من أعماق هذا الظلام، من قلب هذه الدموع والهزائم المتكررة، سوف تولد معجزة لم يتوقعها أحد، فكما أن أعظم القصص تحتاج إلى أكثر البدايات ظلاماً، فإن أعظم الانتصارات تحتاج إلى أعمق الآلام.
في الجزء الثاني من هذه الملحمة الإنسانية، سنفتح صفحات جديدة من رحلة العودة، من الانكسار الأعظم إلى التتويج التاريخي، من اللعنة إلى لحظة الخلود… انتظرونا، فالقادم أعظم، والقصة لم تبدأ بعد!
أقرأ الجزء الثاني من المقال
ليونيل ميسي وبلاد الفضة: من حلم الطفل حتى وداع الدموع #2
(المصادر)