أسطورة في طور الصنع
كان روبرتو باجيو في قمة مجده عام 1994، لاعباً أنيقاً يجمع بين القوة والذكاء والفن، حامل لقب الكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم، هدافاً صاحب رؤية خلاقة، قاد منتخب إيطاليا بمفرده تقريباً إلى نهائي كأس العالم في الولايات المتحدة، كان أداؤه أسطورياً، سجل 5 أهداف حاسمة، وقاد السكوادرا اتزورا إلى المباراة النهائية بعد تصدره المشهد في الأدوار الإقصائية.
لكن القدر كان يخبئ له نهاية مختلفة، لحظة أصبحت واحدة من أكثر اللحظات تراجيدية في تاريخ كرة القدم، لحظة لا تزال محفورة في ذاكرة كل عاشق للساحرة المستديرة.
المشهد الذي لن يُنسى
في ملعب روز بول في باسادينا، كاليفورنيا، وقف باجيو تحت أشعة الشمس الحارقة ينظر إلى الحارس البرازيلي كلاوديو تافاريل، المباراة انتهت بالتعادل السلبي، والوقت الإضافي لم يغير شيئاً، الركلات الترجيحية هي من ستحدد بطل العالم.
سجلت البرازيل 3 ركلات من أربعة، وسجلت إيطاليا أثنين من أربعة، وجاء دور باجيو ليسدد الركلة الخامسة التي إن سُجّلت تستمر الركلات، وإن أُهدرت تنتهي البطولة لصالح البرازيل.
كان حلم البطولة قريبًا، لكن ركلة الجزاء تلك… التي أطاح بها الهواء، أو ربما ضغط اللحظة، سحبت الستار عن لغز خالد: ماذا لو سجل باجيو؟
الكرة دخلت الشباك
يتقدم باجيو بثقة، ينظر إلى تافاريل (حارس منتخب البرازيل)، يتراجع خطواته القليلة المميزة، يركض ويسدد... تسكن الكرة الزاوية اليسرى العليا للشباك! يصيح المعلق "هدف هدف هدف... يسجل باجيو وينقذ إيطاليا!"
الجمهور الإيطالي يهتف بصوت واحد "باجيو! باجيو!"، زملاؤه يركضون لاحتضانه، أعاد لهم الامل مرة أخري، ينظر لصديقه باليوكا ويشجعه، ويستمر موكب الركلات الترجيحية، والضغط الآن على البرازيل.
السيناريو الأول
يتقدم بيبيتو بثبات نحو الكرة، الركلة الخامسة للبرازيل، التوتر يملأ الهواء في ملعب روز بول، يقف جيانلوكا باليوكا على الخط الأبيض، يقرأ لغة الجسد بعين الصقر، وعندما يطلق بيبيتو تسديدته ينقضّ باتجاه الزاوية الصحيحة ويبعد الكرة ببراعة مذهلة! المدرجات تصمت للحظة كأنها لا تصدق ما حدث، الامل عاد لايطاليا!
تقدم دونادوني لتسديد الركلة السادسة، يثبت نظره، يركلها ببرود الأعصاب في الشباك… هدف! الضغط يعود مرة أخري إلى البرازيل ضياع الركلة يعني نهاية الحلم، يتقدم مازينيو وهو لا ينظر حتى إلى الحارس، يهرع لوضع الكرة، لا يلتفت للحارس، يسدد بدون تفكير… الكرة تعلو العارضة! تنفجر المدرجات الإيطالية، الدموع تتحول إلى هتاف، إيطاليا بطلة العالم للمرة الرابعة وتبهر العالم كله.
باجيو هذه المرة يقف مرفوع الرأس، بطل العالم وحامل المجد على كتفيه، يُحسم لقب “أفضل لاعب في البطولة” دون جدل، والجماهير الإيطالية تضعه في مصاف مارادونا وبيليه، يحظى بدعمٍ لا مثيل له، ويُكتب اسمه بشكل مختلف في ذهن كل عاشق لكرة القدم الإيطالية، ومع نهاية العام، يُتوج بالكرة الذهبية للمرة الثانية علي التوالي.
السيناريو الثاني
يقف بيبيتو على بُعد خطوات من تاريخ جديد للبرازيل، الركلة الخامسة هي كل شيء الآن، والملعب يغلي توترًا، أنفاس الجماهير محبوسة، باليوكا يقفز في مكانه محاولاً تشتيت تركيزه، لكن النجم البرازيلي يثبت نظره في عيني الحارس بثقة رجل يعرف قدر هذه اللحظة، يتذكر طفله «ماتيوس» الذي وُلد أثناء البطولة، وتلك الرقصة الشهيرة التي أحتفل بها في مباراة هولندا (توجه نحو الجماهير، ومد ذراعيه إلى الأمام يحركهما يميناً ويساراً وكأنه يحمل بين يديه طفلاً صغيراً )، ابتسامة خافتة ترتسم على وجهه بلا وعي، ثم يركض نحو الكرة ويسددها بهدوء قاتل… الكرة تعانق المقص الأيسر للشباك، لتنفجر المدرجات فرحًا: البرازيل بطلة العالم للمرة الرابعة.
على الجانب الآخر، يقف روبيرتو باجيو منكسراً، رأسه مُنحني، هذه المرة لم يكن كبش الفداء، لقد كان هداف البطولة وحامل آمال إيطاليا حتى النهائي، وسدد ركلته بنجاح، لم يتوج صحيح، لكن اللوم لم يقع عليه كما حدث في واقعنا؛ هذه المرة خرج من الملعب كبطل مأساوي، لا كمن تحمّل كل وزر الهزيمة وحده.
الجحيم الذي عاشه باجيو
في عالم لا يرحم، يُختزل مجهود بطولة كاملة في لمحة واحدة، هذه هي القاسية التي عاشها روبرتو باجيو. الواقع لم يكن مثل تخيلاتنا الوردية؛ فبعد أن سحَر الجميع بموهبته التي قادت إيطاليا المتعثرة إلى النهائي وسجل فيها 5 أهداف حاسمة، كل شيء انهار في ثوانٍ.
ارتفعت الكرة فوق عارضة المرمى في لحظة صمت رهيب، كأن العالم كله توقف عن الدوران، لم يكن مجرد إهدار لركلة؛ كان إهدارًا لحلم أمة، وكان الثمن هو اللقب العالمي، بينما احتشد اللاعبون البرازيليون للاحتفال، وقف باجيو منحنياً، مثل تمثال للأسى والخيبة، لقد "مات واقفًا حقًا”؛ جسده كان حاضرًا لكن روحه الرياضية سحقت في تلك اللحظة.
كيف تحولت البطولة التي كان فيها هدافًا ومنقذًا إلى مشهد رمزي للخذلان ؟!
الجميع نسي أنه كان بطل البطولة الحقيقي لمنتخب إيطاليا، نسيوا هدفيه في مرمى نيجيريا لإنقاذ الفريق من الإقصاء في دور الـ16، ثم هدفه في الدقائق الاخيرة أمام أسبانيا في ربع النهائي، ونسیوا هدفيه في نصف النهائي أمام بلغاريا، تم اختزال مساهماته كلها في تلك الركلة الأخيرة، ليُحمل وحده عبء الهزيمة، وهو الظلم الذي لم يُعاقب عليه أي لاعب في تاريخ كأس العالم بهذه القسوة.
تأثير تلك الركلة لم يقتصر على البطولة؛ بل طارد مسيرته وحياته الشخصية لسنوات، صار شبحًا يطارده في كل مباراة، وفي كل مرة يتقدم فيها لتسديد ركلة جزاء، على الرغم من استمراره في تقديم مستويات مذهلة مع أندية كبرى، وحتى قيادته لمنتخب إيطاليا مرة أخرى في كأس العالم 1998، إلا أن سؤال "ماذا لو؟" بقي معلقًا فوق رأسه كسحابة سوداء، اعترف باجيو بأنه عانى من اكتئاب حاد، وأنه احتاج إلى سنوات طويلة حتى يتصالح مع تلك الذكرى الأليمة، مؤكّدًا في أكثر من تصريح أنه في الكثير من الاحيان قبل النوم، يستعيد مشهد تلك الركلة التي غيّرت حياته.
لكن هذا السقوط لم يُنهِ أسطورة باجيو، بل شكّل عنوانها؛ الرجل الذي تحمّل اللوم نيابة عن جيلٍ كامل، فصار أيقونةً للتراجيديا الكروية والإيمان حتى النهاية، لم يفز بكل ما يستحق، لكنه غرس درسًا أعمق في الذاكرة الجماعية: أن العظمة لا تُقاس دائمًا بالبطولات، بل بالشجاعة في مواجهة القدر.
فهل تعتقدون أن لقب كأس العالم كان سيغيّر صورة باجيو ومسيرته، أم أن الأساطير الحقيقية تُولد من جراحها لا من كؤوسها؟
(المصادر)