الدقيقة التي صنعت التاريخ
كان مساء
17 نوفمبر 1993 في استاد "حديقة الأمراء" في باريس أشبه بفيلم درامي
يُكتب لحظة بلحظة. فرنسا، بقيادتها التاريخية، كانت تحتاج إلى نقطة واحدة فقط
لتطير إلى أمريكا، بينما وقفت بلغاريا على حافة الهاوية، تتشبث بخيط أمل وحيد لا
يزيد سمكه عن خيط حرير.
انتهى
الشوط الأول بالتعادل 1-1، وبدأت عقارب الساعة في الصمود بشراسة، الدقيقة 80... ثم
85... كانت أنفاس الآلاف في المدرجات محبوسة، وبدأت ملامح الاحتفال الفرنسي
بالظهور، كان المشهد يجنح نحو نهاية مأساوية مألوفة لمنتخب صغير يحلم بالمعجزة.
ثم جاءت
الدقيقة 90.
في هجمة
مرتدة كالحلم، انطلقت الكرة من ناييدينوف إلى إيميليو كوستادينوف، الذي لم يتردد اطلق قذيفة صاروخية لا ترحم، اخترقت الزاوية البعيدة لمرمى بيرناند لاما، لتصمت
باريس بأكملها للحظة واحدة... قبل أن تنفجر القارة العجوز بصيحات البلغار وهم
يركضون بجنون نحو مجدٍ لم يتخيلوه، بتلك القذيفة، كتبت بلغاريا تأشيرة سفرها إلى
أمريكا، بينما غرقت فرنسا في ظلامٍ من الصدمة والعار.
لكن...
ماذا لو دارت العجلة بشكل مختلف؟
تخيّل معي
للحظة أن تلك الكرة المصيرية اصطدمت بالعارضة، وارتدت بعيدًا عن الخطوط البيضاء، تخيل صافرة النهاية وهي تقطع أنفاس اللاعبين، لتنطلق موسيقى "لا
مارسييز" وسط انفجار بركاني من الفرح في باريس، السماء تتلألأ بالألعاب
النارية، والعناوين الرئيسية في اليوم التالي تعلن: "الديوك تعود إلى أمريكا!"
العالم الذي فقدنا فيه الحصان البلغاري
سافر
"الديوك" إلى أمريكا 1994 محملين بالأمل، لم يكن صعودهم مفاجأةً تذكر،
بل كان أمراً متوقعاً، في المجموعة الثانية،
تصدرت الأرجنتين بجدارة، بينما احتلت فرنسا المركز الثاني بفارق الأهداف أمام
نيجيريا ، ليحمل الفرنسيون آمالهم إلى الأدوار الإقصائية بثقة المنتصرين.
في دور
الـ16، واجهت فرنسا المكسيك، وكان الأداء ساحرًا وانتهت
المباراة بثلاثية نظيفة، زيدان الشاب يُبهر الجميع بلمساته، وجينولا يشق الدفاعات
بمهارة ساحرة، وكانتونا المهاجم القناص لتصعد إلى ربع النهائي وهي محمولة على أجنحة الثقة.
العناوين
في الصحف الفرنسية في اليوم التالي كانت صاخبة: "الديك يغني مجددًا في
سماء العالم!"
معركة
العمالقة: الديوك ضد الماكينات
ثم جاء ربع
النهائي... الموعد الحتمي بين فرنسا وألمانيا، بين أناقة الكرة الفرنسية وانضباط الماكينات الألمانية، الملعب
في دالاس كان يغلي، كلينسمان يهاجم بلا هوادة، وماثيوس يفرض إيقاعه على وسط
الميدان، فيما يحاول كانتونا وجينولا إبقاء الأمل حيًا.
لكن في النهاية، كانت الواقعية الألمانية أقسى من الحلم الفرنسي، هدف متأخر من كلينسمان في الدقيقة 84 أنهى الحكاية، وأسدل الستار على رحلة الديوك عند عتبة المجد.
الحصان
الاسود كان السويد
لقد كان المنتخب السويدي هو الحصان الأسود لتلك
البطولة، حيث شق طريقه إلى نصف النهائي بمسار أكثر واقعية، تخطى السعودية بثبات في
دور الـ16، ثم تفوق على رومانيا بركلات الترجيح في مباراة عصيبة بدور الثمانية،
قبل أن توقف آلة البرازيل الهجومية مسيرته بهدف نظيف متأخر، ليثبت أن الأحلام
الواقعية قد تصل بعيداً حتى دون هزيمة عمالقة العالم.
بلغاريا تصعد وتصنع واحدة
من أعظم المفاجآت في التاريخ
في صيف 1994، حين كان الجميع يتحدث عن
البرازيل والمانيا والأرجنتين وايطاليا، لم يكن أحد يضع بلغاريا في الحسبان، لكن
في ملاعب أمريكا، وُلدت أسطورة لم يكن أحد يتوقعها، من بلدٍ بالكاد خطف بطاقة
التأهل في اللحظة الأخيرة، تحولت بلغاريا إلى ملحمةٍ كروية كتبها ستويشكوف
بقدميه.
رحلة المجموعات: من الإحباط إلى ولادة الأسطورة
لم تبدأ بلغاريا كأس العالم 1994 كفريقٍ مرشح، بل كوجهٍ
مجهول في مجموعة الموت مع الأرجنتين ونيجيريا واليونان. وفي مباراتهم الأولى، تلقى
البلغار صدمةً قاسية، عندما اكتسحتهم نيجيريا بثلاثية نظيفة جعلت الجميع يتوقع
خروجًا مبكرًا، وأكدت الصحف وقتها أن “بلغاريا جاءت لتكمل العدد.”
لكن ما حدث بعد ذلك كان أشبه بنهضةٍ كروية في الجولة
الثانية، انفجر الفريق البلغاري برباعية نظيفة أمام اليونان، ليعيد الثقة ويشعل
آمال التأهل، ثم جاءت اللحظة التي غيّرت كل شيء: مواجهة الأرجنتين في الجولة
الأخيرة.
في مباراة اعتقد الجميع أن الأرجنتين ستحسمها بسهولة، قدّم
ستويشكوف ورفاقه عرضًا بطوليًا، ليقود بلغاريا للفوز 2-0 على التانغو بقيادة
باتيستوتا.
بهذا الانتصار التاريخي، أنهت بلغاريا المجموعة في المركز
الثاني خلف نيجيريا، متفوقة على الأرجنتين واليونان، لتبدأ رحلة الحلم التي لم
يكن أحد يجرؤ على توقعها.
من خيبة البداية إلى نشوة المجد، أثبتت بلغاريا أن الكبوة
الأولى ليست النهاية... بل قد تكون شرارة المعجزة.
الحصان البلغاري يواصل الركض نحو المجد
في دور الـ16، واصلت بلغاريا كتابة فصول معجزتها، أمام
المكسيك، كان الضغط لا يُحتمل، لكن ستويشكوف كعادته كسر الصمت بهدف
رائع جعل البلغار يحلمون أكثر، المكسيك عادت سريعاً وفرضت التعادل 1-1، وامتد
اللقاء إلى ركلات الترجيح... هناك، كانت الأعصاب من فولاذ، وتصدى الحارس بوريسلاف
ميهايلوف لثلاث ركلات ليقود بلاده إلى ربع النهائي لأول مرة في تاريخها.
الجميع قال إنها النهاية، لأن الخصم القادم هو ألمانيا بطلة
العالم، فريق لم يعرف الرحمة،
تقدمت الماكينات بهدفٍ بدا أنه إعلان نهاية الحلم، لكن بلغاريا رفضت الموت، في
ثلاث دقائق فقط، انفجرت المدرجات: ستويشكوف من ركلة حرة لا تصد، ثم ليشكوف يصعق
الألمان برأسية قاتلة.
في تلك اللحظات، تحولت بلغاريا من “مفاجأة” إلى قصة أسطورية
تُروى عبر الأجيال.
وفي نصف النهائي، كان الموعد مع إيطاليا وباجيو، الفارس
الذي كسر كل قلوب البلغار، سجل هدفين في أربع دقائق فقط، حاول ستويشكوف ورفاقه
العودة لكن الحلم توقف عند حدود الحكاية الجميلة، انتهت المباراة 2-1، لكن بلغاريا
خرجت مرفوعة الرأس، بعدما سحرت العالم بأداء بطولي سيبقى محفورًا في ذاكرة
كل عاشق للمونديال.
سحر المونديال لا يصنعه
الكبار دائمًا
في عالم كرة القدم، ليست الكؤوس وحدها من تصنع المجد، بل
القصص التي لا تُنسي، ما فعلته بلغاريا في
صيف 1994 لم يكن مجرد إنجاز رياضي، بل حكاية إنسانية عن الإيمان بالحلم حتى اللحظة
الأخيرة، من هدف كوستادينوف القاتل في باريس إلى إسقاط ألمانيا في أمريكا، سطّر
البلغار واحدة من أجمل روايات المونديال على الإطلاق.
وربما كانت فرنسا ستصعد وتخرج في ربع النهائي بلا ضجيج، لكن
بلغاريا أعطتنا ما هو أثمن من التأهل… أعطتنا دراما، وشغف، وحلمٌ لن يتكرر بسهولة.
في النهاية، يبقى السؤال:
هل هناك ما هو أجمل من أن ترى الحصان الأسود يسبق الجميع في
سباق كان يُفترض أن يخسره؟ 🖤⚽
(المصادر)
1- كل
شئ عن مباراة فرنسا –
بلغاريا 1993
3-
مشوار بلغاريا في كاس العالم 1994