في اللحظات التي تُنحت فيها أسماء الأبطال في سجل الخلود، يقف رجال في الخلفية، تلمع دموعهم في عيونهم قبل أن تلمع ميدالياتهم على صدورهم، يخطو خطوة واحدة للوراء، ليس عن ضعف، بل عن عظمة نادرة. إنهم أساطير الظل، أولئك الذين يصنعون المجد ثم يتركون الأضواء لغيرهم.
أسطورتنا الأولي هي، "دي ماريا" الفتى الذي يحمل الأمل على قدميه، ويصنع الفارق حين ينهار كل شيء، ثم ينظر العالم إلى نجم آخر، بينما يترك هو بصمته ويمضي، إنه "الحريف"، اللاعب الذي يمتلك براعة الشارع ومكر النخبة، لكن القدر دائمًا يختار له موقع المساعد لا البطل المتوّج.
رسالة مدريد في 2014.. ليلة نهائي لم تكتمل
قبل نهائي كأس العالم 2014 بأيام، وبينما كانت الأرجنتين تستعد لمواجهة ألمانيا في ماراكانا، وصل إلى معسكر المنتخب خطاب رسمي من إدارة ريال مدريد، كان دي ماريا مصابًا، يصارع الأمل والألم، يستميت للحاق بالفرصة التي من المحتمل ان لا تتكرر، الخطاب أشبه بأمر عسكري: "لا تلعب المباراة". كان الجواب تحذيرًا صارمًا من عقوبات محتملة إذا تفاقمت إصابته وهو على وشك الدخول لسوق الانتقالات، تجاهل دي ماريا الرسالة، ومزّقها غضبًا، لكن جسده كان أصدق وأقوى من عناده؛ فلقد خذله القدر ولم يتمكن من اللحاق بالنهائي الأهم في مسيرته، ليقف على خط التماس شاهدًا على خسارة بلاده للقب.
لكنه لم يكن يعلم أن القدر كان يُحضّر له فصلاً آخر من المجد، بعد ثماني سنوات كاملة، حين يعود ليسجل في النهائي، ويتسبب في ركلة جزاء كانت مفتاح فوز الأرجنتين بكأس العالم 2022.
البداية: حلم من روزاريو على حذاء مهترئ
لم تبدأ تلك القصة على ملاعب كرة القدم الخضراء، بل على أرضية صلبة في مسقط رأسه بروزاريو، حيث كانت الحياة قاسية، لكن الأحلام الكبيرة، والديه رأيا في عينيه شرارة مختلفة، لقد ضحيا بكل شيء ليشتريا له أول حذاء كرة قدم، مؤمنين أن هذه القدمين الصغيرتين ستوصلهما إلى عالم آخر.
بدأت رحلته مع نادي روزاريو سنترال، حيث أنضم إليهم وهو طفل 4 سنوات، وأظهر موهبة استثنائية، ولعب للفريق الاول قبل أن يتم 17 عام، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى انتقل إلى أوروبا، محطماً كل الحواجز، وأنتقل الي بنفيكا البرتغالي، حيث صقل موهبته وتنوعت أدواره ، وحقق معهم الدوري، الكأس (مرتين)، والسوبر المحلي، وبعد ثلاثة سنوات فقط، جاءت لحظة القفز إلى القمة... إلى ريال مدريد.
صناعة الألقاب من خلف الستار
إذا أردت أن تفهم ظاهرة دي ماريا، انظر إلى مسيرته، في ريال مدريد، لم يكن هو النجم، كان محاطًا بـ رونالدو، بيل، وأوزيل وغيرهم من عمالقة الكرة، لكن في الليلة التي انتظرها المدريديون لـ 12 عامًا، نهائي دوري الأبطال 2014 (العاشرة)، كان تأثيره هو الفصل الحاسم، لم يسجل هدفًا، لكنه قدم مباراة العمر، ركضًا، ومراوغة، وعزيمة، كان محرك الفريق الذي لا يكلّ ولا يملّ، وصنع الهدف الثاني لجاريث بيل وتم تتويجه بجائزة أفضل لاعب في المباراة، هكذا كتب التاريخ باسم الآخرين، لكنه كان من خطّه بالحبر الأول. ورغم ذلك، سرعان ما تم بيعه بعد بضعة أشهر لمانشستر يونايتد، في قرار أثار الجدل وكشف مجددًا عن قدر هذا اللاعب على صناعة المجد والرحيل بهدوء من خلف الأضواء.
صانع المجد في الظل الباريسي
عاش موسمًا باهتًا في مانشستر يونايتد، لم يحتمل فيه برود الدوري الإنجليزي ولا عبث الإدارة، انتقل إلى باريس سان جيرمان، وجد الارجنتيني الاستقرار في "حديقة الأمراء"، على مدار سبع سنوات (2015-2022)، لم يكن دي ماريا مجرد لاعب، بل كان المهندس الصامت لغرفة العمليات الباريسية، قدم الأهداف الحاسمة والتمريرات السحرية، وحطم الأرقام القياسية ليصبح أفضل صانع أهداف في تاريخ النادي على الإطلاق، ومع ذلك، وكعادة "أسطورة الظل"، ظلت الأضواء تذهب بانتظام إلى الأسماء اللامعة: قوة إبراهيموفيتش، إنهاء كافاني، ثم الموهبة الخارقة لنيمار ومبابي، وأخيرًا ليونيل ميسي، كان دي ماريا يضيء المسرح بهدوء، يمنحهم الكرات السهلة، ويغطي مساحاتهم، ثم يغادر خشبة التتويج ليترك الأبطال الجدد يتلقون التصفيق، وعندما حان وقت الرحيل، انتقل إلى يوفنتوس الإيطالي في صمت، تاركًا خلفه إرثًا من التضحية والعطاء الموثق بالأرقام، لكنه المغمور في ذاكرة الجماهير التي تعشق الوهج.
👑 النهائيات: حين يأتي الأبطال، يكون هو هناك
إذا كانت كرة القدم تُقاس بالتأثير الحاسم في اللحظات التي لا تحتمل الخطأ، فإنه ملك متوّج لا ينافس، لا يوجد لاعب في جيله امتلك سجلًا مشرفًا في النهائيات كما فعل دي ماريا طيله مسيرته، في كل محفل كبير، في كل ليلة ترتجف فيها الأعصاب، تجد بصمته واضحة لا تقبل الجدل.
مع الأرجنتين لعب نهائي ...
• أولمبياد بكين 2008 : أحرز هدف الفوز وحصلت الارجنتين علي الميدالية الذهبية .
• كوبا أميركا 2021 : أحرز هدف الفوز أمام البرازيل وأحرزت الارجنتين اللقب .
• الفالينسميا 2022 : أحرز هدف من الثلاث أهداف أمام إيطاليا وأحرزت الارجنتين اللقب .
• كأس العالم 2022 : أحرز هدف وتسبب في ركلة الجزاء وأحرزت الارجنتين اللقب .
مع الاندية لعب نهائي ...
• كأس ملك أسبانيا 2011: صنع هدف الفوز لرونالدو في الدقيقة '103 وأحرزت ريال مدريد اللقب.
• كأس السوبر الاسباني 2013: صنع هدف ولكن ريال مدريد خسرت اللقب.
• كأس ملك أسبانيا 2014: أحرز هدف وأحرزت ريال مدريد اللقب.
• دوري أبطال أوروبا 2014: "العاشرة" صنع الهدف الثاني لبيل وحصل على رجل المباراة.
• كأس الرابطة الفرنسية 2016: أحرز هدف وأحرزت باريس اللقب.
• كأس فرنسا 2016: صنع هدف وأحرزت باريس اللقب.
• كأس الابطال الفرنسي 2017: صنع هدف وأحرزت باريس اللقب.
• كأس الرابطة الفرنسية 2017: أحرز هدف وصنع هدفين وأحرزت باريس اللقب.
وحصل على رجل المباراة.
• كأس الرابطة الفرنسية 2018: صنع هدف وأحرزت باريس اللقب.
• كأس الابطال الفرنسي 2018: أحرز هدفين وأحرزت باريس اللقب.
• كأس فرنسا 2019: صنع هدف ولكن باريس خسرت اللقب.
• كأس الابطال الفرنسي 2020: أحرز هدف وأحرزت باريس اللقب.
• كاس فرنسا 2021: صنع هدف وأحرزت باريس اللقب.
• السوبر البرتغالي 2023: أحرز هدف وأحرزت بنفيكا اللقب.هذه هي الحقيقة المجردة: 22 مساهمة بين هدفٍ وصناعة في 18 نهائيًا — رقم يصعب تكراره حتى من أساطير الجيل الذهبي. ومع ذلك، نادرًا ما وُصف بأنه "النجم الأول".
ولعلّ القدر أراد له أن يثبت قيمته عبر الغياب والحضور؛ فـ "الآراء الفنية" كلها تتفق على أن غيابه القسري عن نهائي كأس العالم 2014 كان نقطة التحول الكبرى التي ساهمت في خسارة الأرجنتين أمام ألمانيا، غاب في اللحظة الحاسمة، فغابت معها بلاده عن المجد، وعاد في اللحظة المناسبة في 2022 ليسجل ويصنع، ويساهم في عودة اللقب المنتظر الي بلاد الفضة بعد 36 عامًا.
لاعب مظلوم إعلاميًا… ولكنه عادل مع اللعبة
حين تُغلق الستائر وتخفت الأضواء بعد النهائيات، هناك دائمًا لقطة تُعيد نفسها… لقطة لدي ماريا، مبتسمًا بهدوئه المعتاد، يحتفل دون ضجيج، وكأنه يقول للعالم: "كنت هنا… وفعلتها بطريقتي." هو اللاعب الذي صنع المجد دون أن يصرخ طلبًا للاعتراف، وترك بصمته في كل بطولة كأن القدر نفسه اختاره ليظهر فقط عندما تُكتب القصص الكبرى. رحلته كانت بين الضوء والظل، بين الأبطال الذين يتصدرون الأغلفة، والجندي الذي يجعلهم أبطالًا. وفي النهاية، ربما لم يكن الارجنتيني أسطورة الصحف، لكنه حتمًا بطل الجماهير، بطل النهائيات، بطل اللحظات الثقيلة التي لا تحتاج إلى تصفيق لتثبت قيمتها.
لقد كشفنا الستار عن أول أساطير الظل، لكن في عالم كرة القدم الشاسع، هناك نجوم كثيرون قدموا الكثير، وظلمتهم الأضواء.
🔥 من برأيكم هو "أسطورة الظل" القادمة؟ ذلك اللاعب المظلوم إعلاميًا ولكنه كان عادلًا مع اللعبة، والذي يستحق أن يكون بطل مقالنا القادم!