جنرالات الدفاع
الإيطالي.. والبطل الذي لم يُذكر
عندما يذكر المجد الكروي الإيطالي، فإن أول ما يتبادر إلى
الذهن هو الكاتيناتشو، وأول ما يُستحضر من الذاكرة هم الجنرالات الذين بنوا هذا
المجد،
تبدأ القائمة بـ باريزي، رمز الكمال الدفاعي، يليه مالديني، أيقونة الجمال والوفاء، وفي التسعينيات والسنوات
اللاحقة، قد تتذكر أسلوب قيادة نيستا، أو الصلابة الهادئة لـ كانافارو، وصولاً إلى
الثالوث الحديث في يوفنتوس والتتويج بـ يورو 2020، هؤلاء هم الأبطال الذين طبعوا
صورهم على الأغلفة والمجلات.
لكن في قلب هذا التجمع الأسطوري، وداخل الخندق الأمامي
لأعظم فريق دفاعي في التاريخ (ميلان التسعينيات)، كان هناك رجل يشارك باريزي
ومالديني كل مجد، كل لقب، وكل بطولة دوري أبطال، ومع ذلك، نادراً ما يتمتع بنفس
الضوء أو التمجيد، هو المدافع الذي كان يملأ أي فراغ، ويسد أي ثغرة تكتيكية، لكنه
ظل دائمًا حبيس "الظل
الثالث".
هذه هي قصة أليساندرو كوستاكورتا، أسطورة الظل الخامسة،
الذي لا يتذكر تفاصيل عبقريته التكتيكية إلا العشاق الحقيقيون لميلان والكرة
الإيطالية، بالرغم من ألقابه وإنجازاته القياسية، إلا أنه دائماً ما كان منسياً في
المناقشات العالمية عن عظماء الدفاع، وظل اسمه يتوارى خلف قامات زملائه الأكثر
كاريزما.
رحلة من الظلام إلى التاج..
في صمت
كانت نهاية المسيرة تُكمل درباً من الرومانسية الكروية
الصامتة، في 19 مايو 2007، وعلى أرضية سان سيرو الأسطورية، خاض أليساندرو
كوستاكورتا مباراته الرسمية الأخيرة بقميص ميلان أمام أودينيزي في الدوري
الايطالي، كانت المباراة بالنسبة للجماهير مجرد تحية وداع، لكن القدر أراد أن
يُنهي "بيلّي" قصته بلمسة غير متوقعة.
في الشوط الثاني، مُنح لميلان ركلة جزاء، وهنا حدثت
المفاجأة الدرامية التي تُعطى للنُبلاء فقط، الملعب كله التفت نحو اللاعب
البالغ من العمر 41 عامًا… لم يكن من المعتاد أن يتقدم لتسديد الركلات، لكن زملاءه
أفسحوا الطريق بصمتٍ جميل إجلالاً وتكريماً لمسيرته، تقدم كوستاكورتا بخطوات ثابتة
نحو الكرة، هو الذي لم يسجل في مسيرته الطويلة سوى هدفين في 662
مباراة
سابقة!
سدد كوستاكورتا الكرة بهدوء، محظوظاً بأن الحارس ارتمى في الزاوية الأخرى، مسجلاً هدفه الثالث والأخير في 663 مباراة خاضها بقميص "الروسونيري". لم يكن الهدف عادياً؛ فقد أصبح كوستاكورتا آنذاك أكبر هداف سناً في تاريخ الدوري الإيطالي، وهو رقم قياسي حطمه لاحقًا زلاتان إبراهيموفيتش في عام 2023 الذي سجل أيضًا من ركلة جزاء ضد أودينيزي في سن 41 عامًا وخمسة أشهر و15 يومًا، صنع هدف كوستاكورتا لحظة توديعية مذهلة، حيث خرج من الملعب إلى تحيّة وقوف عارمة من جمهور سان سيرو الذي يعرف قيمة الإخلاص غير المشروط.
بعد صافرة النهاية، ارتدى جميع لاعبي ميلان قميصًا يحمل رقم
5 تكريمًا
له، ووقف الجمهور تحيةً لأحد أعرق المدافعين في تاريخ النادي، لم يكن صوت التصفيق
احتفالًا بهدف عابر… بل تقديرًا لمسيرة كاملة بدأت بإعارة متواضعة، وانتهت بهدف
رمزي أمام جماهير أحبته كما لو كان فردًا من العائلة.
لم يغادر كوستاكورتا الملعب كلاعبٍ منتصر فحسب، بل كأسطورة
ظلّ؛ رجلٌ عاش حياته في الخلفية يخدم الدفاع، لكن وداعه كان في مقدمة المشهد،
يتلقى تكريماً لا يُمنح إلا لمن أتقن فن التضحية في صمت.
الظل المتراكم..من الدرجة
الثالثة إلى خلف عمالقة ميلان
لم تكن رحلة أليساندرو كوستاكورتا حكاية لاعب صعد سريعًا
إلى القمة، بل كانت قصة رجلٍ تعلّم أن يبني مجده بعيدًا عن العناوين الكبرى، حين
خرج معارًا إلى مونزا في الدرجة الثالثة موسم 1986-1987، بدا الأمر كما لو أن
مستقبله في ميلان يتلاشى، لاعب شاب، نحيل، لم يكن يملك القوة الجسدية التي يتمناها
المدربون، لكنه امتلك ما لا يُقاس بالأرقام، هدوء التفكير، ذكاء التمركز، وقدرة
فطرية على قراءة الملعب.
قضى كوستاكورتا عامًا واحدًا فقط في مونزا، لكنه عاد بعقلية
مختلفة—لاعب صار يعرف أن العمل في الظل يصنع نجومًا من نوع خاص، وعندما عاد إلى
ميلان، وجد نفسه خلف اثنين من أعظم المدافعين في تاريخ اللعبة: فرانكو باريزي وباولو مالديني. أي لاعب شاب كان سينهار تحت هذا الوزن
الثقيل… لكن كوستاكورتا صنع مجده من موقعٍ آخر، موقع “الركيزة الثالثة” التي لا
يراها الكثيرون، لكنها تحمل البناء كله.
لم يكن نجم الدفاع ولا قائده، بل كان رجل التوازن؛ اللاعب
الذي يغطي ثغرات الآخرين، الذي يتحرك بخطوة قبل الهجمة، والذي يجعل شريكه يبدو
أفضل ومع مرور السنوات، ومع وصول أسماء عملاقة مثل أليساندرو نيستا عام 2002، ظل
كوستاكورتا حاضرًا—لا يشتكي من الظل، ولا يتنافس على الضوءـ بالعكس، كان الظل هو
المكان الذي يتقنه.
ومع تغيّر الأجيال في ميلان، من حقبة ساكي إلى كابيلو ثم
أنشيلوتي، بقي “بيلّي” هو الرابط الخفي بين كل تلك المراحل، لاعب لا يتصدر عناوين
الصحف، لكنه جزء من كل بطولة، تقريبًا في كل لحظة ذهبية عاشها النادي.
من الدرجة الثالثة إلى منصات أوروبا، من لاعب معار يبحث عن
فرصة، إلى “عمود ثابت” خلف أساطير الدفاع الإيطالي… كانت مسيرة كوستاكورتا درسًا
عميقًا في أن العظمة ليست دائمًا في الواجهة، بل في الأشخاص الذين يصنعون
الاستقرار في الخلف—حيث لا تنطلق الكاميرات، لكن تُبنى البطولات.
الجوكر التكتيكي: أسلوب
الهدوء الذي يمنع الأهداف
كانت الجماهير تتحدث عن الأسماء الكبيرة: مالديني بقرأته
السوبرانية، ونيستا بقوته وأناقته، وباريزي بعنفه التاريخي، لكن في زوايا الدفاع —
حيث لا أخبار بطولات فردية — كان هناك رجلٌ مختلف لم يكن يجذب العناوين، لكنه كان
الجدار الصامت، اليد الخفية التي تمنع الشباك من الاهتزاز، والقلب الهادئ الذي
يمنح الدفاع توازنه في أوقات الفوضى.
وتكمن مفتاح عبقرية أليساندرو كوستاكورتا في أنه كان "الجوكر التكتيكي" الذي لا يقدره سوى المدربين، لو
كان دوره يقتصر على قطع
الكرات، لكان مجرد مدافع جيد آخر، لكن عبقريته تكمن في
قدرته على المرونة التكتيكية والخدمة في أي موقع بأداء مثالي:
عقل الدفاع: القراءة قبل الاندفاع
في أنظمة مدربي ميلان العظيمة، كان يُطلب من المدافعين أكثر
من مجرد قوة بدنية: "عقل دفاعي"، قدرة على قراءة الهجمات قبل أن تتشكل،
وهنا برع كوستاكورتا،
رغم أن قامته ليست ضخمة، وقدرته على الارتقاء محدودة مقارنة ببعض زملائه، إلا أنه
عوّض ذلك بدقة الموقع، توقيت مثالي، وذكاء في التوقع، بحسب تحليلات التكتيك، كان
يتجنب الدخول العنيف في التدخلات إلا عند الضرورة، مفضلاً المراقبة والتموضع، لم يكن يهدف إلى إظهار العنف، بل إلى
إظهار "السيطرة
الهادئة"،
ليصبح بمثابة خط رقابي لا تستطيع السرعة ولا تغيير الإيقاع اختراقه.
عندما يرتفع خط الدفاع ويُطبّق مصيدة التسلل، لا تحتاج
لصخرة ضخمة بقدر ما تحتاج لعقلٍ سريع، كوستاكورتا كان هذا العقل — يتحرك ويتغيّر
مع زملائه ككتلة واحدة، يُغلق المساحات، ويقطع التمريرات الخطرة قبل أن تُدرج في
رعب الصف الخلفي.
مرونة التكتيك "الجوكر" الذي يحتاجه كل مدرب
كانت مرونة كوستاكورتا التكتيكية هي نقطة قوته وعلامة
عبقريته التي لم يُقدّر ثمنها إعلامياً. كان أشبه بـ "جندي
متعدد الأدوار"،
لا يتخصص في موقع واحد، بل يلعب كقلب دفاع صلب إلى جانب باريزي، أو كظهير أيمن،
وفي بعض الأحيان كظهير أيسر أو ليبرو متأخر، هذا التكيف جعله صمام أمان لا غنى عنه
في خطط أي مدرب، يُستخدم لسد أي فراغ تكتيكي يظهر في التشكيلة.
عندما يصبح الدفاع فناً: التوقيت فوق القوة
كثيرون يظنون أن المدافع الناجح هو من يفوز في الالتحامات
الجسدية العنيفة؛ لكن كوستاكورتا أعاد كتابة هذه القواعد، كان يؤمن بأن التوقيت
الذهني أهم بكثير من القوة الجسدية، فكان يُبقي الهدوء في منطقة الجزاء، مفضلاً أن
يختار اللحظة المناسبة للتدخل.
لقد كان فنه الحقيقي يظهر في مهارة التزحلق لقطع الكرة
(التاكلينج)، كانت زحلقاته أشبه بـ "جراحة دقيقة"، ينفذها في التوقيت المثالي لانتزاع الكرة
من المهاجم في أي مكان بالملعب، كثير من تحليلات أدائه تُظهر أنه قليل اللجوء إلى
التدخلات الخاطئة؛ لأن نسبة الخطأ في توقيت قطعه للكرة كانت لا تُذكر، لقد كان
كوستاكورتا يتقن إنهاء الهجمة بـ "لمسة
فنية" وليست
بـ "قوة عشوائية".
حصاد المجد: خمسة ألقاب
أبطال في صمت الـ "ظل"
تجسد مسيرة كوستاكورتا التناقض الأكبر في كرة القدم: كيف
يمكن للاعب أن يحصد كل هذا المجد ويظل منسياً نسبياً؟ بطولاته وحدها تكفي لوضعه في
قمة تاريخ الدفاع:
·
دوري
أبطال أوروبا: فاز باللقب خمس مرات 1989)، 1990، 1994، 2003، 2007 (هذا الرقم يضعه في
مصاف الأساطير المطلقة، ورغم ذلك، نادراً ما يُذكر اسمه في النقاشات العالمية عن
"عظماء دوري الأبطال"
·
الدوري الإيطالي: فاز باللقب
سبع مرات، ليشارك في فترة هيمنة ميلان على إيطاليا وأوروبا.
·
التواجد في كل العصور: لعب تحت قيادة ثلاثة أجيال تدريبية مختلفة
(ساكي، كابيلو، أنشيلوتي) وظل أساسياً، مما يبرز جودته وقابليته للتكيف التكتيكي.
إن هذه السجلات الحافلة من الألقاب الجماعية تثبت أن كوستاكورتا
كان قمة في مجاله، لكن طبيعته الهادئة والتزامه بالتكتيك جعلاه يظل يُقدر في صمت، ليكون
بالفعل أسطورة الظل الذي لم يُمنح الجوائز الفردية التي تناسب حجم هذه الأرقام القياسية.
💡
خلاصة الظل: وداع "بيلّي" وتكريم
التاريخ الصامت
حين تطفأ أضواء الملاعب، لا يبقى في الذاكرة سوى ملامح
قليلة… لحظات تصنع معنى كرة القدم الحقيقي، بالنسبة لكوستاكورتا، لم تكن أهم
لحظاته تلك التي رفع فيها الكؤوس، ولا تلك التي عاش فيها المجد الأوروبي، بل
اللحظات التي لم يره فيها أحد، اللحظات التي أعاد فيها تمركزه خمس مرات في عشر
ثوانٍ ليمنع هدفًا، اللحظات التي غطّى فيها مساحة زميل، وامتص فيها خطأ لاعب صغير،
أو مرّر كلمة تهدّئ قلبي حارسٍ أو مدرب.
لقد عاش كوستاكورتا حياته المهنية كلها في صمت… لكنه صمتٌ
يشبه ضوءًا خافتًا يُرشد طريقًا كاملًا، لم يكن أسطورة العناوين، بل أسطورة
التفاصيل؛ اللاعب الذي إن غاب لاحظه الجميع، وإن حضر لم يتحدث عنه أحد، لكنه كان
دائمًا القوة التي تبقي ميلان واقفًا.
وحين غادر الملعب في يومه الأخير، بعد هدفه الوداعي، بدا
وكأنه يسلّم أجمل رسالة في مسيرته:
أن البطولة ليست حكرًا على من يتصدر الصورة… بل هي لمن كان
قلب الفريق وإن لم يُرَ.
في سلسلة "أساطير الظل"، يبقى كوستاكورتا المثال
الأنقى: رجلٌ أثبت أن بعض اللاعبين خُلقوا لا ليُصفق لهم الجمهور… بل ليجعلوا
الجمهور يؤمن أن فريقه لا يسقط.
والان لقد كشفنا الستار عن قصة أليساندرو كوستاكورتا، ليبقى اسمه رمزاً لـ "أسطورة الظل" الذي لا يمكن تعويضه.
🔥
السؤال النقاشي: من برأيكم هو "أسطورة الظل" القادمة؟ ذلك اللاعب المظلوم
إعلاميًا ولكنه كان عادلًا مع اللعبة، والذي يستحق أن يكون بطل مقالنا القادم!