كيف تتحول كرة القدم إلى حرب هوية ؟

كيف تتحول كرة القدم إلى حرب هوية ؟

 1.	👑 اكتشف التاريخ السري لصراع نيوكاسل وسندرلاند. من الحروب الأهلية إلى ديربي تاين ووير الدموي. حكايات كروية مثيرة عن أشرس عداوة في إنجلترا.

العداوة التي تجاوزت الملعب: ديربي تاين ووير (نيوكاسل × سندرلاند)

في إنجلترا، حين تقترب مواعيد الديربيات، يتغير الإيقاع، الشوارع تصبح أكثر صمتًا، الحانات أكثر ضجيجًا، لم تكن تلك المباريات مجرد تسعين دقيقة، هناك ديربيات تُحكى بالألقاب، وأخرى تُقاس بعدد النجوم، وثالثة تُسوّق عالميًا كمنتج كروي فاخر، ليفربول وإيفرتون صراع البيت الواحد، آرسنال وتوتنهام حرب شمال لندن، وفي الألفية الجديدة فرض ديربي مانشستر نفسه كصراع كوني بين السيتي واليونايتد.

 لكن، هل سألت نفسك يوماً: أين يختبئ الغضب الحقيقي الذي لم تلوثه أضواء الشهرة أو عدسات البريميرليج الملمعة؟

إذا أردت الحديث عن عداوة لا تُقاس بعدد البطولات في الخزائن، بل تُقاس بكراهية تتوارثها الأجيال كوصية مقدسة، وصراع وجودي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ المظلم، والسياسة الجافة، والجغرافيا المتوترة، فعليك أن ترحل بعيداً نحو الشمال الشرقي المتجمد هناك، حيث تشتعل الأرض تحت أقدام لاعبي نيوكاسل يونايتد وسندرلاند في مشهد لا يتكرر.

ديربي "تاين ووير" (Tyne-Wear Derby) أكثر من مجرد مباراة؛ إنه انفجار لمشاعر مكبوتة لا تعترف بلغة المنطق أو الروح الرياضية الزائفة، هي حرب مدن صامتة، ونزاع هويات بين "الماكبايس" و"القطط السوداء"، حيث يصبح الفوز مسألة حياة أو موت، والهزيمة وصمة عار تلاحق صاحبها لسنوات.

نحن هنا بصدد قصة أُريقت فيها الدماء قديماً من أجل الفحم، وتُراق فيها الدموع حديثاً من أجل "هيبة" المدينة، استعدوا، فنحن على وشك دخول منطقة لا يسكنها إلا الموتورون بحب أنديتهم، حيث "الجار" هو العدو الأول والأخير.

صورة كانت كافية لإشعال النار

في ديربي تاين ووير، لا تنتهي المباراة مع صافرة الحكم، بل تبدأ حكاية جديدة بعدها مباشرة.

في المواجهة الأخيرة التي جمعتهم، كان الانتصار رقميًا مجرد هدف، لكن رمزيًا كان انفجارًا مؤجلًا، لم يحتفل سندرلاند بطريقة صاخبة، ولم يركض اللاعبون بلا اتجاه، على العكس كان الاحتفال هادئًا إلى حد القسوة… احتفال يعرف بالضبط ماذا يريد أن يقول.

القصة بدأت؛ في لوحات الإعلانات الرسمية، رفضت إدارة سندرلاند كتابة اسم "نيوكاسل يونايتد"، واكتفت باستخدام كلمة "الزوار" (Visitors) في خانة الخصم.

ومع صافرة النهاية، جاء المشهد الأهم، اصطف اللاعبون والجهاز الفني أمام جماهيرهم، في لقطة جماعية محسوبة، ووقفوا ثابتين، وكأنهم يلتقطون صورة للذاكرة قبل العدسات، لم تكن مجرد صورة… هذه اللقطة كانت ردًا مباشرًا على ما فعله لاعبو نيوكاسل في يناير 2024، عندما التقطوا صورة جماعية احتفالية بعد فوزهم بثلاثية نظيفة على سندرلاند في كأس الاتحاد الإنجليزي، الآن انعكست الأدوار نفس الصورة، نفس الوقفة… لكن في ملعب النور، وأمام جماهير «القطط السوداء».

في ديربي ويير – تاينسايد، لا تُنسى الإهانات، ولا تُمحى الصور، وسندرلاند، في تلك الليلة، لم ينتصر فقط في مباراة… بل استعاد صوته، وكسر صمت عشر سنوات، وأعاد إشعال نار عداوة لم تنطفئ يومًا.

جذور الحقد: هل بدأت العداوة في الملعب أم في ساحات الحرب؟

لكي تفهم سر تلك النظرات المشتعلة بين مشجعي الفريقين، عليك أولاً أن تُغلق شاشة التلفاز وتكف عن تصفح "اليوتيوب"، لتعود معي بالزمن إلى الوراء، حيث لم تكن هناك كرة قدم أصلاً، بل كانت هناك خيول وسيوف ومدافع، الحقيقة الصادمة هي أن مشجع نيوكاسل لا يكره جاره في سندرلاند بسبب ركلة جزاء ضائعة أو تسلل مشكوك فيه، بل يكرهه لأن التاريخ قرر ذات يوم أن يضعهما في معسكرين متضادين لا يلتقيان، في صراع بدأ منذ القرن السابع عشر ولم ينتهِ حتى اللحظة.

⚔️ الحرب الأهلية وتضارب الولاءات

في عام 1642، عندما اشتعلت الحرب الأهلية الإنجليزية، لم تكن نيوكاسل وسندرلاند تقفان على الحياد، نيوكاسل، المدينة الغنية بامتيازاتها الملكية واحتكارها لتجارة الفحم، أعلنت ولاءها الصريح للملك تشارلز الأول، وكان الفحم شريان الحياة، ومن يسيطر عليه يملك القوة والنفوذ، أما سندرلاند، المدينة الأصغر والأقل حظًا، فقد وُضعت خارج هذا الامتياز لم يكن أمامها سوى الانضمام إلى المعسكر البرلماني المعارض للملك، بحثًا عن كسر الهيمنة الاقتصادية لنيوكاسل، لم تكن المعركة أيديولوجية فقط، بل معركة بقاء. الحصار، المعارك، والخسائر تركت أثرًا نفسيًا عميقًا، وتحولت المدينة المجاورة من منافس تجاري إلى عدو تاريخي، ومع مرور الزمن، انتقلت هذه الكراهية من جيل إلى جيل، حتى أصبحت جزءًا من الهوية المحلية لكل مدينة.

لم يكن الصراع حينها بـ 11 لاعباً، بل كان بجيوش جرارة اشتبكت في معارك طاحنة، تركت جروحاً في الوجدان الشعبي للمدينتين لم تندمل، حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

🏭 الثورة الصناعية واتساع الفجوة الجغرافية 

دارت عجلة الزمن، ووصلت الثورة الصناعية لتعمق الفجوة بدلاً من ردمها، نيوكاسل، بساحاتها الواسعة ومبانيها الفخمة، بدأت ترى نفسها "العاصمة الإقليمية" الراقية، تنظر إلى جارتها سندرلاند نظرة "الأرستقراطي للفقير"، التي تحولت الي قلعة للعمال الكادحين، حيث ورش بناء السفن التي لا تنام وعرق الجبين الذي يختلط بماء البحر.

هذا التباين الطبقي والجغرافي كان ينتظر شرارة ليتحول إلى جنون، ولم تكن هذه الشرارة سوى كرة القدم، عندما تأسس نيوكاسل يونايتد وسندرلاند في أواخر القرن التاسع عشر، لم يذهب المشجعون للملعب لمشاهدة مباراة، بل ذهبوا ليحملوا "راية الأجداد"، بالنسبة لهم، أصبح المستطيل الأخضر هو ساحة المعركة الجديدة، والكرة هي الوسيلة التي تسمح للفقير أن يهزم المتعالي، وللملكي أن يؤدب الثائر، لقد تحولت كرة القدم إلى "حرب حضارية" في المظهر،. لكن الشعور ذاته بقي حيًا، ينتظر كل ديربي ليطفو من جديد.

⚽ حين دخلت الكرة المشهد… أولى صرخات الـ "تاين ووير"

لم يكد يهدأ غبار الحروب القديمة حتى وجدت المدينتان وسيلة جديدة لإفراغ شحنات الكراهية، في عام 1883، وقع الصدام الأول الذي لم يكن مجرد مباراة، بل كان جس نبض لعداوة ستدوم للأبد، ومنذ تلك اللحظة، أدرك الجميع أن "ديربي تاين ووير" لن يكون يوماً عن الروح الرياضية. 

👊 تاريخ من الصدام: عندما يتحول الديربي إلى ساحات قتال

إذا أردت أن تعرف متى تحول الصراع إلى جنون حقيقي، فعليك أن تقرأ ما حدث في "الجمعة العظيمة" لعام 1901، كانت نيوكاسل تستضيف جارتها سندرلاند في ملعب "سانت جيمس بارك"، تدفق الآلاف من المشجعين، وتجاوز العدد سعة الملعب بمراحل، لدرجة أن الجماهير اقتحمت أرضية الملعب قبل صافرة البداية! تحولت المباراة إلى فوضى عارمة، واندلعت اشتباكات دموية أدت إلى إلغاء اللقاء. 

لم تتوقف العداوة عند هذا الحد، بل انفجرت في وقائع عنف دموية سجلها التاريخ البريطاني كالأشرس على الإطلاق، لعل أبرزها "معركة العبّارة" عام 2002 بين عصابات المشجعين، حيث خططت عصابات مشجعي الفريقين لاشتباك دموي أدى لسجن العشرات في واقعة وصفتها الشرطة بأنها "الأسوأ في تاريخ المملكة".

 والاشتباكات العنيفة التي شهدها قلب مدينة سندرلاند عام 2003، قبل مباراة لمنتخب إنجلترا، حيث تناسى الجميع قميص المنتخب واتحد مشجعو كل فريق للهجوم على الشرطة والطرف الآخر بوابل من الزجاجات والمقذوفات.

و في عام 2008، وبعد فوز سندرلاند على نيوكاسل على أرضه لأول مرة منذ 28 عامًا، اقتحم مشجعو سندرلاند أرض الملعب بشكل محدود، وألقوا مقذوفات على اللاعبين.

ومع مرور السنوات، ظل "جنون الديربي" يطل برأسه في كل مواجهة؛ ففي عام 2011 ركض مشجع مراهق نحو أرض الملعب ليعتدي على حارس نيوكاسل "ستيف هاربر".

لكن الذروة الدرامية التي جذبت أنظار العالم كانت في عام 2013، عقب خسارة نيوكاسل بثلاثية، حيث اندلعت أعمال شغب في شوارع المدينة، وخلّد الإعلام الدولي واقعة المشجع الذي فقد أعصابه لدرجة أنه وجه لكمة قوية لحصان تابع للشرطة! 

هذه الوقائع لم تكن مجرد شغب عابر، بل كانت رسائل غضب وانتقام تثبت أن هذا الديربي هو بركان بشري ينفجر مع كل صافرة، محولاً اللعبة الجميلة إلى صراع بقاء دامي. 

🏆 صراع الارقام.. من يملك السيادة التاريخية في الشمال؟ 

منذ أن تحولت العداوة إلى منافسة كروية، بدأ الصراع الحقيقي على من يكتب اسمه أولًا في سجل المجد.

وكان سندرلاند صاحب الضحكة الأولى، حيث فرضت سيطرتها المطلقة على إنجلترا بحصدها لقب الدوري عامين متتاليين (1891-92) و (1892-93)، معلنةً عن ولادة قوة لا تُقهر في بدايات الكرة الإنجليزية.

استمر تفوق "القطط السوداء" الكاسح، حتى وصلوا إلى 4 ألقاب دوري قبل أن يتمكن نيوكاسل من تذوق طعم الذهب لأول مرة، لكن "الماكبايس" لم يصمتوا طويلاً، فما إن حققوا لقبهم الأول في موسم (1904–05)، حتى اشتعل الفتيل؛ فتبعوه باللقب الثاني في (1906–07)، ثم الثالث في (1908–09)، لتتحول موازين القوى في الشمال إلى سباق محموم حبس أنفاس الجميع.

لتصبح المحصلة التاريخية في بطولة الدوري حتى يومنا هذا 6 ألقاب لسندرلاند مقابل 4 لنيوكاسل، ولكن إذا كان سندرلاند يفتخرون بسيادة الدوري، فإن نيوكاسل ترد بصوتٍ أعلى في ملاعب الكؤوس؛ حيث تزين خزائنها 6 ألقاب في كأس الاتحاد الإنجليزي مقابل لقبين فقط لجارتها، بالإضافة إلى لقب قاري وحيد يمنح نيوكاسل بريقاً لا تملكه سندرلاند.

أما في المواجهات المباشرة، فالتاريخ يسجل أكبر زلزال كروي في الشمال حين دكت سندرلاند حصون جارتها بنتيجة (9-1) عام 1908، بينما يظل فوز نيوكاسل بنتيجة (6-1) عامي 1920 & 1955 هو الرد الأقوى. 

وحتى يومنا هذا، وفي مفارقة قدرية مذهلة، يقف الفريقان اليوم على خط استواء تاريخي يحبس الأنفاس؛ فمن أصل 158 مواجهة مباشرة، حقق نيوكاسل الفوز في 54 لقاءً، بينما جاء الفوز الأخير لـ "القطط السوداء" ليعادل الكفة بـ 54 فوزاً، فيما كان التعادل سيد الموقف في 50 مناسبة.

حتى في لغة الأهداف، تظل الفوارق ضئيلة؛ حيث سجل نيوكاسل 227 هدفاً، بينما تتفوق سندرلاند بفارق ضئيل برصيد 233 هدفاً.

ليظل السؤال معلقاً فوق نهري "تاين" و"وير": من هو السيد الحقيقي؟ والإجابة دائماً ستعتمد على لون القميص الذي اخترت أن تضعه فوق قلبك منذ ولادتك. 

🏁 الخاتمة: هل ينتهي الحقد يومًا؟

في نهاية المطاف، ندرك أن ديربي "تاين ووير" ليس مجرد حالة شاذة في تاريخ الإنجليز، بل هو تجسيد لجنون كروي يسكن الكوكب أجمع، ففي عالم كرة القدم، أحياناً لا تكون الغاية هي الفوز، بل رؤية "الجار" يتألم، ففي إسبانيا، قد ترحب جماهير إسبانيول بالهبوط للدرجة الثانية شريطة ألا يتوج برشلونة بلقب الليجا، وفي إيطاليا، يذكر التاريخ أن جماهير لاتسيو هددت لاعبيها إذا لعبوا بجدية أمام إنتر ميلان، فقط لضمان حرمان غريمهم الأزلي روما من الفوز بالدوري!

إنجلترا بدورها مليئة بهذه القصص؛ مدن كاملة تُعرّف نفسها من خلال من تكره قبل من تحب، في هذه العوالم، الكرة ليست 90 دقيقة، بل ذاكرة جمعية، وكرامة، ورغبة دفينة في ألا ينتصر الآخر حتى لو كان الثمن باهظًا. 

لكن وسط هذا الجنون، تكمن الحكمة الأهم: كرة القدم لا تصنع الكراهية، بل تكشفها، هي مرآة لمجتمعات تحمل تاريخًا من الصراع، وتمنح الناس مساحة آمنة لتفريغ ما لا يمكن قوله في الحياة اليومية، وربما لهذا السبب بالذات، لن ينتهي الحقد يومًا… لأنه ليس عيبًا في اللعبة، بل جزء من إنسانيتها، وفي كل مرة نعتقد أن ديربيًا ما هو “الأكثر كراهية في العالم”، تظهر قصة جديدة لتؤكد أن الشغف حين يمتزج بالهوية، يصبح نارًا لا تنطفئ.

تعليقات